عندما يظهر حجم الأموال المجهولة المصير في ماليّة الدولة اللبنانية، وعندما ينكشف حجم الأخطاء في القيود الماليّة، والمخالفات القانونية الجسيمة في إدارة أموال الدولة وسلفاتها ونفقاتها، يَعرفُ اللبناني كيف هُدرت أمواله على مدى سنوات طويلة، ويعرف أيضاً أن إدارة أموال اللبنانيين، تتم بطريقة سيئة قد لا تصل بمعاييرها حتى إلى أبسط قواعد إدارة الدكاكين الصغيرة الموجودة في لبنان.
قبل مدّة قليلة أظهر تقرير لديوان المحاسبة أن هناك حوالى 5 مليار دولار لم تُسترجَع إلى خزينة الدولة لأنها أعطيت كسلفات خزينة إلى المؤسسات وبالتحديد مؤسسة كهرباء لبنان وإدارات وبلديات في شكل يشوبها الكثير من المخالفات القانونية وعدم إنطباق الشروط القانونية عليها، وبالتالي لم تتمكن هذه المؤسسات من إعادتها إلى خزينة الدولة، فتحوّلت إلى عجز إضافي يُسدّد من جيوب اللبنانيين.
قبل ذلك كانت فضيحة الـ27 مليار دولار. نعم 27 مليار دولار رقم أظهره تدقيق قام به فريق مختص في وزارة المال لحسابات المالية حتى 2017 على أنه مجهول المصير. رقم من غير المعروف إذا سُرق أو إختُلس أو هناك أخطاء في القيود. الأكيد أن هذا الرقم هو بحدّ ذاته فضيحة خطيرة موثّقة ويمكن الإنطلاق منه في أيّ عملية تدقيق جنائي مالي لحسابات الدولة.
لم تنتهِ فضائح المالية في لبنان. ففي تقرير حديث لديوان المحاسبة عن التدقيق بحسابات 2018 تبين أن هناك اختلاساً لألفين وخمسمئة مليار ليرة لبنانية للأموال. وإستخدام تصنيف إختلاس يعود إلى أن الديوان وجد أن هناك فوارق في الحسابات لم تُعرف أسبابها. ففي عام واحد هناك فارق خطير تحوم حوله شبهات قانونية يصل إلى أكثر من 1.6 مليار دولار في ذلك الحين.
قد لا تكون هناك إدارات مالية كثيرة في العالم تشبه الواقع الخطير لمالية لبنان حيث الأموال المجهولة المصير هي بأرقام ضخمة جداً، إذاً بين التدقيق الذي أنجزه فريق في وزارة المالية حتى عام 2017 وبين تدقيق قطع الحساب لعام 2018 ثمة حوالي 29 مليار دولار غير معروفة المصير من دون السنوات الأخرى.
أكثر منذ ذلك، أرقام أخرى في تقرير الديوان الأخير عن قطع حساب 2018 تعكس سوء الإدارة المالية، فهناك حوالي 18 مليار دولار عبارة عن أرصدة من دون قيود ومشاريع بقيمة 320 مليون دولار نُفّذت قبل توفر إعتمادات لها. والأسوأ كما في السنوات السابقة أن وزارات وبالتحديد وزارة الاشغال تتهرب من رقابة ديوان المحاسبة وتقوم بتجزئة النفقات.
بمعنى آخر، إذا كان هناك مشروع تعبيد طريق بمليار ليرة لبنانية مثلاً يتم تقسيم المشروع إلى أجزاء، كل جزء منها لا يتجاوز المئة مليون ليرة وذلك حتى يتم التهرب من رقابة الديوان.
وفي هذا الإطار، تكشف مصادر قضائية لصحيفة «السهم» أنّ في عهد أحد وزراء الأشغال تمَّ تجزئة نفقات وصلت إلى أكثر من 200 مليار ليرة لتنفيذ مشاريع طرقات لم تخضع لرقابة ديوان المحاسبة وهو ما يطرح علامات إستفهام حول التنفيعات والمتعهدين ومعايير التنفيذ وقيمة الصفقات ونوعية الأعمال.
تكفي هذه الأرقام الموثقة رسمياً لمعرفة سوء الإدارة المالية لنفقات الدولة والتي شكّلت جزءاً رئيسياً من تراكم الدين العام في لبنان، علماً أن الإنفاق في أكثريته الساحقة ليس إستثمارياً أو لمشاريع إنتاجية، إنما هي نفقات جارية كخدمة الدين العام ودفع الرواتب والأجور والإيجارات وغيرها.
أرقامٌ تحتاج بسرعة إلى إنجاز التدقيق الجنائي المالي في حسابات الدولة وقيودها وحسابات المصارف ومصرف لبنان وكل الحسابات الخاصة لمعرفة أين ذهبت وهدرت أو سرقت أموال اللبنانيين الغارقين في أزمات خطيرة إقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.