تشهد الساحة السياسية في هذه الحقبة، تحركات ناشطة تتمحور في معظمها حول ملف قيادة الجيش، وهو الملف المتصل حكماً بالاستحقاق الرئاسي، والذي لا يزال مؤجّلا، والظروف لم تسمح بتحريكه جديا في ظل الحرب في غزة، وما يجري في جنوب لبنان.
وقد صار واضحاً ان المشهد يتمحور حول امكانية التمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون، او الذهاب الى خيار آخر. وصار واضحا كذلك، ان رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل يقود معركة رفض بقاء عون في قيادة المؤسسة العسكرية، ويسعى الى ازاحته في موعد انتهاء ولايته في كانون الثاني 2024.
هذا الموضوع ليس وليد الساعة، بل انه خرج الى العلن منذ بضعة اشهر، وكان بمثابة مؤشر الى ان القوى السياسية غير مؤمنة بأن الفراغ الرئاسي سينتهي في فترة وجيزة، لذلك بدأ الحديث عن قيادة الجيش ما بعد عون قبل حوالي عام من انتهاء الولاية، وبعد مرور اقل من شهرين من بدء الفراغ الرئاسي.
لكن المعركة احتدمت اليوم، بعدما اقترب موعد نهاية ولاية عون، وبعدما صار شبه مؤكد ان الفراغ الرئاسي مستمر الى ما بعد نهاية العام 2023، بما يعني، من الوجهة السياسية ان التمديد لقائد الجيش سيبقيه في دائرة المرشحين للرئاسة، وتقاعده سيبعده نهائيا عن المنافسة. وهذا ما يريده باسيل، الذي جاهر بوضوح انه سيتصدّى لأية محاولة تهدف الى ايصال جوزف عون الى قصر بعبدا.
في هذه المعركة، يستخدم باسيل كل اوراق القوة التي لديه، ومن اهمها:
اولا- التمثيل المسيحي الذي يمتلكه من خلال كتلته النيابية، وهو بذلك يؤمن غطاءا مسيحيا لازاحة عون.
ثانيا- علاقته مع حزب الله، وحرص الاخير على عدم معاداته، ولو ان تحالفهما السياسي لم يعد متينا بالقدر الذي كان عليه في السابق.
ثالثا- وجود وزير دفاع موال له، مع ما لهذه الوزارة من اهمية في مسألة التعيينات في المؤسسة العسكرية.
وفي هذا السياق، فقد باسيل في الفترة الاخيرة قوة الورقة الاولى (الغطاء المسيحي)، بعدما اندفع حزب القوات اللبنانية في اتجاه خوض معركة التمديد لعون لمدة سنة، وبعدما خرج البطريرك الماروني بشارة الراعي بموقف حازم دفاعا عن بقاء عون في موقعه. وقد حاول باسيل، الذي كان يعرف ضمناً موقف الراعي، الى التخفيف من حماسة بكركي لبقاء عون، والتقى البطريرك قبل فترة، وحاول اقناعه بوجهة نظره، لكنه فشل. وجاء موقف الراعي في اليوم التالي لاستقباله باسيل واضحا وقويا لجهة رفض انهاء خدمات عون قبل انجاز الاستحقاق الرئاسي. وقد لعب رئيس التيار الوطني الحر ورقة طمأنة البطريرك الى ان البديل عن عون سيكون ضابطا مسيحيا، وبالتالي سيبقى الموقع مع مسيحي، ولو غير ماروني، لكنه فشل.
واستتبع البطريرك موقفه باتصالات شددت على رفض بكركي ازاحة عون وتسليم قيادة الجيش الى ضابط غير ماروني، بصرف النظر عن هوية هذا الضابط. وللغاية، استقبل الراعي السفيرة الاميركية في بكركي وعقد معها اجتماعا مطولا تركّز في مجمله على ملف قيادة الجيش.
وفي هذا السياق، ينقل زوار بكركي ان البطريرك مستاء من الوضع القائم، وهو يسأل من يثير هذا الموضوع امامه، ما هي المناصب الثلاثة الاهم للموارنة؟ اوليست رئاسة الجمهورية، قيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان. وحتى الآن، سُلب الموارنة منصبي الرئاسة والحاكمية، الاول بالفراغ المستمر، والثاني بتسليم نائب الحاكم الشيعي الموقع. فهل يجوز ان يستكمل هذا المشهد باقصاء الماروني عن المنصب الثالث المتبقي، أي قيادة الجيش؟
حتى الان لا تزال الامور غامضة في هذا الملف، وقد جاءت زيارة وفد القوات اللبنانية الى رئيس المجلس النيابي نبيه بري ضمن محاولات الدفع نحو كسب معركة التمديد لعون. واعتبر البعض، ان بري يدعم ضمناً التمديد لقائد الجيش، وان موقفه هذا يتجلّى في اجتماعات مجلس الوزراء، وليس من خلال المجلس النيابي. وتشير المعطيات الى ان زيارة تيمور جنبلاط الى جبران باسيل في البترون، تندرج في اطار محاولة التفاهم على هذا الملف، من منطلق استكمال التعيينات في المجلس العسكري، افساحا في المجال امام تولي رئيس الاركان الدرزي قيادة الجيش مؤقتا، بعد انتهاء ولاية عون، وبانتظار انجاز الانتخابات الرئاسية وتعيين قائد اصيل.
لكن، لا زيارة القوات الى بري حسمت الموضوع، ولا زيارة تيمور انتهت الى توافق مع باسيل على تخريجة تسمح باستكمال التعيينات العسكرية. وبالتالي، سيبقى هذا الملف مفتوحا على كل الاحتمالات، مع الاشارة الى أن الجهات الخارجية الداعمة للجيش، وبينها الولايات المتحدة وقطر، قد يكون لها تأثيرها في ايجاد خاتمة سعيدة لهذا الملف، ومؤشرات المناخ القائم في مجلس الوزراء، خصوصا بعد جلسة الخميس 16 الجاري، بدأت تشير الى هذا الاتجاه الحتمي للأمور.