تسود اجواء من التفاهم في هذه الفترة، بين وزارة المال ومصرف لبنان والقطاع المصرفي اللبناني. هذا المناخ ينعكس ايجابا في النتائج التي تخلص اليها الاجراءات التي يتم اتخاذها بالتشاور والتفاهم. هذه الاجواء لم تكن متوفرة في السابق، رغم ان «دبلوماسية» كل الاطراف كانت تقضي باخفاء المشاكل، والايحاء بأن الامور طبيعية. وغالبا، ما خرجت الخلافات بين الاطراف الثلاثة الى العلن، خصوصا بين البنك المركزي ووزارة المال. ولا تزال العلاقة المتوترة التي سادت لفترة طويلة بين وزارة المالية والمصرف المركزي، عندما كان فؤاد السنيورة وزيراً للمال ماثلة في الاذهان.
والمفارقة هنا ان رياض سلامة كان مثل السنيورة محسوباً على الرئيس الشهيد رفيق الحريري. كذلك استمرت العلاقات متوترة عندما اصبحت وزارة المال في عهدة وزراء محسوبين على رئيس المجلس النيابي نبيه بري، رغم ان علاقة سلامة برئيس المجلس صارت مميزة مع الوقت، وصار حاكم المركزي محسوبا عليه. ومع ذلك، استمرت التجاذبات.
في المقابل، كانت العلاقة بين المركزي والمصارف تمر بأزمات صامتة. لكن في معظم الاحيان لا تخرج الى العلن، على اعتبار ان المصارف كانت تشعر بأنها العنصر الاضعف في هذه المعادلة، وتعضّ على الجرح. ومن اهم اسباب التوتر في العلاقات بين المركزي والمصارف، ان سلامة كان يتخذ قراراته منفردا ويبلغها الى المصارف. في حين ان قانون النقد والتسليف، ينص على التشاور بين الطرفين قبل اتخاذ اي قرار، يتعلق بالوضع المصرفي تحديدا، او يؤثر على القطاع بشكل مباشر او غير مباشر.
كل هذا المناخ اصبح وراءنا في الوقت الحالي، بحيث ان المركزي بات يطبق القانون، وهو على تشاور دائم مع المصارف، لاتخاذ القرارات التي يمكن تطبيقها، وتحاشي الاضرار التي يمكن ان تلحق بالقطاع جراء اي قرار غير قابل للتنفيذ.
هذا المناخ التفاهمي المثلث الاضلع، يساهم على ما يبدو في استقرار سعر الصرف في الاسواق، ويسمح لمصرف لبنان بالاستمرار في شراء الدولارات لزيادة حجم الاحتياطي لديه. وهذا الامر حصل للمرة الاولى، قبل ايام.
اليوم، يبرز تحدٍ آخر يحتاج الى تضافر جهود وزارة المال ومصرف لبنان، وبالتشاور مع المصارف، من اجل تحاشي الاضرار الجسيمة التي قد يتسبّب بها مشروع اعادة هيكلة المصارف، كما هو وارد الى الحكومة من قبل هيئة الرقابة على المصارف. اذ يتبين في مضمون هذا المشروع، ان من صاغه استند الى القانون الذي ينظّم عملية افلاس المصارف، بمعنى ان قسما كبيرا من المصارف قد يذهب الى الافلاس الحتمي نتيجة تطبيق هذه الآلية. ولا شك في ان الآلية الواردة في اقتراح القانون، تعاقب ادارات المصارف والمساهمين والموظفين الكبار الذين أبقوا على ودائعهم في لبنان، ولم يقوموا بتهريبها، من خلال وضع اليد على هذه الودائع، وتعفي من هرّب امواله الى الخارج.
لكن الأخطر في هذا الموضوع، ان من اقترح القانون، لا يعترف بوجود أزمة نظامية (systemic crisis) في البلد، بل يتصرف وكأن البلد في مواجهة أزمة أصابت بعض المصارف. وهذه هي الخطيئة القاتلة التي قد تؤدّي الى حرمان القسم الاكبر من المودعين من إمكانية استعادة ودائعهم، بسبب الافلاسات التي قد تطال المصارف، في حال لم يتم تعديل هذا القانون. وتنبغي الاشارة هنا الى ان قسما كبيرا من المساهمين هم من العرب والاجانب، ومن البديهي انه اذا تم تطبيق عقاب جماعي عليهم ومصادرة ودائعهم، لن يكونوا مستعدين للمساهمة مجددا في تكبير رساميل المصارف، اذ سيتخلون عن مواصلة الاستثمار في هذا القطاع. والامر نفسه قد ينطبق على المساهمين اللبنانيين. وبالتالي، سيفشل المسعى القائم لاعادة هيكلة المصارف بهدف تصحيح اوضاعها لتسهيل عودتها الى العمل المصرفي الطبيعي، وسيتحول الامر الى «مجزرة» مالية تؤدي الى انهيار القطاع برمته، وفقدان المودعين لاموالهم، بما فيها مشروع اعادة المئة الف دولار لكل الحسابات المصرفية.
معالجة هذه المسألة تتم من خلال اعتماد آليات ترتكز على مبدأ وجود أزمة نظامية اصابت كل البلد، وبدأت بالدولة التي قررت التوقف عن دفع ديونها في اذار 2020. وهذا يعني تحميل المصارف الخسائر من خلال حسم رساميلها التي كانت مقيّمة قبل الأزمة بحوالي 22 مليار دولار. ومن ثم اتخاذ كل الاجراءات الضرورية لتشجيع المساهمين على اعادة رسملة مصارفهم، بما يتناسب والمعايير الدولية. وبهذه الطريقة فقط يمكن ان نحمي اموال المودعين، ونعطي الاقتصاد الوطني فرصة التعافي في اسرع وقت ممكن.