لم تسلك أسعار النفط المسار الذي توقعته لها معظم المؤسسات الدولية المتخصّصة في قطاع تحليل معلومات قطاع المحروقات، ومن ضمنها مؤسسات عريقة مثل البنك الدولي. وفي حين كانت تشير المعلومات الى ان الاسعار سوف ترتفع الى مستويات قياسة، ربطاً بمجموعة عوامل في مقدمها تداعيات الحرب التي اندلعت في غزة في السابع من تشرين الاول/اكتوبر 2023، عاكست الاسواق كل التحليلات، وتراجع سعر النفط عالمياً، على مدار السنة، للمرة الاولى منذ العام 2020. وأغلقت الاسواق في اليوم الاخير من التداول في 29 كانون الاول/ديسمبر 2023، على انخفاض سنوي بحوالي 10%. وأنهي الخام الأميركي تعاملات العام عند 71.65 دولارا للبرميل، ليخسر نحو 10.73% خلال سنة. كما أنهت العقود الآجلة لمزيج برنت العام عند مستوى 77.04 دولارا للبرميل، لتخسر بدورها 10.32%.
هذه النتائج جرى تسجيلها، رغم ان الاسعار ارتفعت بحوالي 8% عقب اندلاع حرب غزة. وتزاحمت التحليلات في حينه في شأن المدى الذي سيبلغه الارتفاع حتى نهاية العام. لكن الرياح جرت في الاتجاه المعاكس، وراحت اسعار النفط تتدحرج، حتى أنهت العام على انخفاض غير متوقّع.
ويبدو أن هناك مجموعة عوامل أوصلت الى هذا الانخفاض غير المتوقّع، من أهمها ما يلي:
اولا- التطورات المرتبطة بالحرب في غزة. ففي حين أن المؤسسات المتخصصة كانت تتخوّف من اتساع رقعة الصراع، وزجّ دول اخرى فيه، تبيّن لاحقاً، ان الحرب قد تبقى محصورة في غزة، وبالتالي، زالت المخاوف المتعلقة بقطع طريق الامدادات، او عرقلة مصادر الانتاج.
ثانيا- زيادة المخزون الاحتياطي الاميركي. وقد وصلت مخزونات الخام الى 421.9 مليون برميل.
ثالثا- الاداء المخيّب للآمال للاقتصاد الصيني. وقد أظهرت الارقام التي صدرت تباعا ان هذا الاقتصاد الذي كان يُراهن عليه لزيادة الطلب على النفط، لا يزال في وضعية النمو البطيء.
رابعا- مخاوف الركود في شأن مصير الاقتصاد العالمي. اذ ان التضخم واصل مسيرته، ولو ببطء، وواصلت المصارف المركزية سياسة رفع اسعار الفوائد لمكافحة التضخّم، الامر الذي انعكس سلباً على النمو الاقتصادي.
خامسا- خروج انغولا من مجموعة اوبك، الامر الذي ساهم في زيادة كميات النفط المعروض.
سادسا- ارتفاع الإنتاج والتصدير الإيراني للنفط، وفق تقارير مؤسسات تتابع عن كثب هذا الموضوع.
سابعا- التفاوض في شأن رفع العقوبات عن النفط الفنزويلي، الأمر الذي سيُدخل 500 ألف برميل يومياً الى السوق قريباً.
هذه العوامل مجتمعة أدّت عملياً الى انخفاض اسعار النفط في العام 2023. مع الاشارة هنا الى ان اسعار الغاز لم تسلك المسار نفسه، وحافظت على مستويات الاسعار القائمة.
لكن السؤال الأهم المطروح في بداية العام 2024 يتعلق بالمسار الذي ستسلكه اسعار النفط خلال العام الجاري، وكيف ستنهي هذا العام.
برغم ان توقعات المؤسسات والخبراء كانت مخيبة في العام 2023، إلا ان التحليلات بالنسبة الى العام 2024 لا تزال تميل الى الجزم بأن احتمالات ارتفاع النفط لا تزال قائمة بقوة، رغم ان الايام الاولى من العام الجديد شهدت بدروها المزيد من التراجع في الاسعار.
وفي هذا السياق، يشير البنك الدولي الى ان اسعار النفط قد تصل الى 90 دولارا للبرميل في الربع الرابع من 2024. هذه التوقعات تستند الى احتمال ان تبقى حرب غزة محصورة، كما هي اليوم. لكن هذا السيناريو يصبح غير واقعي، في حال توسّعت رقعة الحرب، ودخلت دول اخرى فيها.
وهنا يبدو ان المخاوف تتركّز تحديدا على ايران. اذ ان دخول الجمهورية الاسلامية الصراع بشكل مباشر ستكون له تأثيرات كارثية على الاسعار، خصوصاً ان مضيق هرمز قد يصبح مغلقاً امام الملاحة الدولية. ويمتد هذا المضيق على طول حوالي 21 ميلاً بحرياً، ويقع في منطقة الخليج ويفصل بين إيران من الشمال وسلطنة عمان من الجنوب، ويعدّ من أهم الممرات المائية في العالم، ويمر منه حوالي 20.5 مليون برميل يومياً، من دول الخليج وإيران.
وبانتظار الاسواق التي ستقول كلمتها، استنادا الى مجريات الاحداث والتطورات، تنبغي الاشارة الى ان الدول غير المنتجة، استفادت من انخفاض الاسعار خلال العام 2023، وخفّف هذا الانخفاض من وطأة ارتفاع التضخّم، وتباطؤ النمو. وفي هذا السياق، كان لبنان من الدول التي استفادت من هذا الوضع، وساهم الانخفاض في الحفاظ على القدرات الشرائية للمواطنين، لأن المحروقات تشكل مادة رئيسية في سلة السلع الاستهلاكية، وتؤثّر على اسعار كل السلع الاخرى.