ما كانت تخشاه قوى المعارضة في شأن احتمال عقد صفقة مع حزب الله ، يحصل بموجبها الاخير على مكاسب سياسية في الداخل، مقابل تجاوبه مع الطروحات المتعلقة بتهدئة الجبهة في الجنوب، اصبح واقعاً يصعب التنكّر له. ورغم ان قيادة حزب الله سرّبت في اكثر من مناسبة، انها لا تربط الوضع في الجنوب بالوضع الداخلي، وانها ليست في صدد التفاوض للحصول على مكاسب سياسية مقابل إظهار مرونة في ملف الجبهة الجنوبية، إلا ان ذلك لم يُقنع المعارضين، وقد جاءت مهمة الموفد الاميركي اموس هوكستاين لتزيد من مخاوف الخائفين، لئلا نقول لتؤكد صحة تلك المخاوف.
منذ ان أدركت القوى المعارضة ان مهمة هوكستاين تجمع بين تطبيق القرار 1701 وصولاً الى ترسيم الحدود البرية مع اسرائيل، وبين الاستحقاق الرئاسي، ساد قلق مُبرّر حيال امكان عقد صفقة على حساب المعارضة، حيث سيُمنح حزب الله فرصة اختيار مرشحه للرئاسة. هذه المخاوف عبّرت عنها قيادات المعارضة بوضوح لهوكستاين. لكن الأهم في هذا الموضوع، ان الموفد الاميركي نفسه، تحدث بوضوح ايضا الى ممثلي المعارضة، مؤكدا لهم ان الاولوية التي تتسم بها مهمته تكمن في ارساء الهدوء على الحدود اللبنانية-الاسرائيلية. هذه الصراحة التي تحدث بها هوكستاين زادت في مخاوف المعارضين، وجعلتهم يدركون، ولو لم يسمعوا ذلك حرفياً من الموفد الاميركي، ان واشنطن مستعدة لدفع ثمن هذه الاولوية، وبالتالي جاهزة لمنح حزب الله جائزة ترضية في الداخل، في حال سهّل نجاح مهمة ارساء التهدئة.
انطلاقاً من هذه الحقيقة، أبلغ المعارضون هوكستاين الذي اجتمع بهم خلال زيارته الاخيرة الى بيروت، وعلى عكس المرات السابقة، حين كان يحصر اجتماعاته برئيس مجلس النواب ورئيس حكومة تصريف الاعمال وقائد الجيش، انهم يرفضون اية تسوية تسمح لحزب الله بالحصول على امتيازات سياسية اضافية مقابل موافقته على التهدئة. واللافت هنا، ان هوكستاين لم يتفاعل مع هذا الموقف سلباً او ايجاباً، واكتفى بتكرار ما قاله في بداية اللقاء، ان بلاده تعتبر التهدئة اولوية الاولويات، مع شرح اضافي حول مخاطر اندلاع حرب واسعة في لبنان، حيث اكد انها قد تكون خارج السيطرة، وتؤدي الى صراع طويل ومدمّر، لا يمكن الجزم كيف ومتى يمكن ان ينتهي.
هذه الاجواء زادت في منسوب التشاؤم لدى القوى المعارضة، خصوصا ان هوكستاين بدا وكأنه اصبح الممسك الوحيد بالملف اللبناني لدى الادارة الاميركية، وانه بمجرد ان تكون مهمته مترابطة بين التهدئة في الجنوب وترسيم الحدود وتسهيل حصول الانتخابات الرئاسية، فهذا يعني انه لم يعد في مقدور اي طرف لبناني الفصل بين الملفين، وبات حصول صفقة في هذا المجال اقرب الى العقل والمنطق.
لكن اللافت في هذا الموضوع ايضا، ان هوكستاين سلّم بحتمية انتظار الهدنة في غزة، قبل بدء المفاوضات الجدية حول الوضع اللبناني. وقد ربط عودته الى بيروت لمناقشة ورقة الاقتراحات التي قدمها لتنفيذ مهمته، بانجاز الهدنة في غزة. وفي الساعات الاخيرة، وبعدما كانت الاجواء تمضي بشكل ايجابي نحو اعلان الهدنة، تعثرت الامور بعض الشيء، وعادت الشكوك في احتمال فشل هذه المفاوضات، ومواصلة القتال في غزة خلال شهر رمضان. هذا الامر اذا حصل، سيؤدي حتما الى تجميد مهمة هوكستاين، خصوصا ان حزب الله يصر على هذا الشرط، والذي ينصّ على ان لا تفاوض او اتفاقات قبل بدء الهدنة.
ومع ذلك، هناك تأكيدات انه ستجري معالجة الاشكالات التي ظهرت في المفاوضات، وانه لا بد من الوصول الى هدنة، لأن الادارة الاميركية باتت مصرّة على هذا الامر، وهي مستعدة لتضغط جدياً على اسرائيل من اجل ذلك. وقد بدأ الرئيس الاميركي جو بايدن يشعر بأن هذا الملف بات يؤثر سلبياً على معركته الانتخابية التي يستعد لها في تشرين الثاني المقبل، وفق كل استطلاعات الرأي التي تجري في الولايات المتحدة. وهذا هو السبب الذي دفع بايدن الى سحب الملف اللبناني من اللجنة الخماسية، وحصره بين يدي هوكستاين، ليمنحه ورقة تفاوضية قوية يستطيع استخدامها للوصول الى اتفاق. وبالتالي، ستظهر مفاعيل هذا الاصرار في مفاوضات الهدنة في غزة، وفي مفاوضات التهدئة وانجاز الاستحقاق الرئاسي في لبنان.