تبدو الدولة الفرنسية الاكثر إحراجاً في موضوع التعاطي مع تداعيات حرب غزة. فهي من جهة، تقف في صف الولايات المتحدة الاميركية ودول المجموعة الاوروبية في دعم الكيان الصهيوني، وتحرص من جهة اخرى على الحفاظ على علاقاتها الجيدة مع طهران وحزب الله. وبالرغم من ان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون زار اسرائيل واعلن دعم بلاده الواضح لتل ابيب، إلا انه عاد واطلق مواقف انتقد فيها ما يفعله العدو الاسرائيلي في غزة لجهة قتل المدنيين. وحرصت باريس لاحقا، على توضيح مواقف ماكرون من خلال التأكيد انه لم يتراجع عن انتقاداته، بل اراد تفسير موقفه لئلا يفسّر على غير حقيقته. فما حقيقة هذا الموقف بالفعل؟
منذ سنوات، تعمل فرنسا على توطيد العلاقات مع طهران وحزب الله في لبنان. وقد أثمرت هذه الجهود، من خلال التعاون الفرنسي مع الحزب، ومع الدولة اللبنانية. ولعل حصول الشركات الفرنسية على مشاريع كبرى في لبنان، شكل النموذج العملي لثمرة هذا التعاون. ولولا ضغط الهيئات الرقابية لكان انضم قطاع البريد الى لائحة “الغنائم” الاقتصادية الفرنسية في لبنان.
انطلاقا من واقع المصالح الفرنسية، تحاول باريس “السير بين النقاط” لتحاشي اية دعسة ناقصة قد تكلفها علاقات عملت على تمتينها طوال سنوات. وحاليا، تحاول باريس ان تفصل نظرياً على الاقل بين موقفها من حركة حماس، المصنّفة ارهابية في سجل الدولة الفرنسية، وبين حزب الله الذي تتعاطى معه باريس على اساس انه حزب شرعي يمثل شريحة واسعة من اللبنانيين، ولديه حضوره وتمثيله في البرلمان وفي الحكومة.
وفي المعطيات ان التواصل لم ينقطع بين الفرنسيين والحزب، بل تكثّف منذ اندلاع حرب غزة، بهدف توضيح المواقف، والحفاظ على التواصل. وهذا ما دفع امين عام حزب الله، وفي معرض انتقاده للسياسات الغربية، الى تسمية دول لم يرد اسم فرنسا بينها. كما ان قيادة الحزب تدرك ان الفرنسيين يندفعون في اتجاه الوساطة لحل مسألة الرهائن والاسرى، ولهذه الغاية زارت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا الدوحة لمتابعة هذا الملف، سيما ان هناك ثمانية فرنسيين ضمن المخطوفين في قطاع غزة. كما يحاول الفرنسيون التمايز من خلال الطروحات السياسية التي يقدمونها، والتي تستند الى مبدأ حل الدولتين. كما ان باريس تتخذ موقفا متمايزا في موضوع وقف اطلاق النار في غزة. ولذلك كان التصويت الفرنسي في الأمم المتحدة للقرار الذي تقدّمت به المملكة الاردنية لوقف اطلاق نار فوري، ودعمته كافة البلاد العربية، وكانت فرنسا الدولة الغربية الوحيدة التي صوّتت معه.
بالاضافة الى كل ذلك، تعمل فرنسا على خط تحييد لبنان عن الصراع القائم، وهي ابلغت سلطات العدو الاسرائيلي بضرورة تحييد لبنان، كما تحدثت بالمنطق نفسه مع السلطات اللبنانية، وابلغت رغبتها هذه الى قيادة حزب الله. كما انّ فرنسا صوّتت ايضاً على إدانة اليهود المستوطنين في الضفة. ودأبت باريس في الفترة الاخيرة على توجيه التحذير والانتقاد الى تصرفات المستوطنين اليهود في الضفة، والتي قد تؤدي الى كارثة اضافية في الوضع العام.
هذه المعطيات تصب كلها في خانة التمايز الفرنسي حيال الحرب في غزة، وحيال الموقف من ايران وحزب الله. وبالتالي، نجحت باريس جزئيا في التموضع في الوسط، ولو انها تحرص في الوقت نفسه على عدم اغضاب تل ابيب، وعدم ازعاج الولايات المتحدة الاميركية التي تتخذ موقف الداعم الاعمى للكيان الصهيوني.
وفي هذا السياق، وما ان يسكت المدفع، وتبدأ مرحلة التفاوض السياسي، لترجمة نتائج الحرب العسكرية في السياسة، ستكون فرنسا مؤهلة للعب دور اكبر في الملف اللبناني، سيما في الاستحقاقات المطروحة، وفي مقدمها رئاسة الجمهورية. واذا كانت المبادرة الفرنسية السابقة قد سقطت من قبل، فان الفرصة ستكون متاحة لتجديد الدور الفرنسي في هذا الملف، خصوصا ان حزب الله، سيكون مستعدا لمنح الفرنسيين مساحة اكبر في التواسط في هذا الاستحقاق، من اجل اعادة الانتظام السياسي في لبنان.
وبالانتظار، ستحاول فرنسا ان تبقى في موقعها الوسطي، خصوصا انه اصبح اسهل عليها التمركز في هذا الموقع، بعد التغيير الجذري الذي طرأ على توجهات الرأي العام الفرنسي والعالمي حيال ما يجري في غزة.