أخطر ما في مضاعفات الحرب على غزة، هو تحولها إلى حرب استنزاف، وأخطر ما في هذا الاستنزاف أنه يطاوِل الجبهات المنخرطة فيها، وفي طليعتها لبنان.
لبنان لا يحتمل حروب استنزاف، فلا أمكاناته ولا بنيته ولا وضعه السياسي والإقتصادي والصحي، يحتمل ما تؤشر إليه حرب غزة .
حرب تموز 2006 لم تتجاوز الثلاثة والثلاثين يومًا، لم تكن حرب استنزاف ولا حرب تهجير ولا حرب اقتلاع، وصلت إلى مجلس الأمن الدولي، صدر القرار الرقم 1701 ، وبدأ الوضع يعود تدريجًا إلى ما كان عليه.
اليوم الوضع مختلف كليًا:
الحرب تجاوزت الثلاثة والثلاثين يوما، وهي اليوم في يومها السادس والأربعين .
غزة بعد السابع من تشرين الأول الفائت، لن تعود إلى ما كانت عليه قبل السابع من تشرين الأول. غزة، مدينة وقطاع، أصبحا منكوبيْن ولا إمكانية للعيش فيهما قبل إعادة إعمارهما التي يمكن ان يبلغ سنوات عدة، هذا إذا توقفت الحرب واستمرت كاستزاف، على غرار ما حصل في حرب تشرين 1973 .
هذا يعني أن جنوب لبنان دخل في نفق الاستنزاف، مع ما يعني ذلك من تصعيد في أي لحظة وانقلاب الاستنزاف في أي لحظة إلى حرب .
ماذا يعني ذلك ؟
يعني أولًا ان لبنان هو عمليًا في حرب طويلة ستستمر ما دامت حرب غزة قائمة. والتأقلم مع هذه الحرب لن يكون سهلًا على الإطلاق .
ويعني ثانياً أن مرحلة جديدة بدأت، لا هي تشبه ما بعد الحرب عام 1990 وبداية مرحلة الإعمار، ولا هي تشبه ما بعد أيار 2000، تاريخ الإنسحاب الاسرائيلي من الجنوب وإزالة “جيش لبنان الجنوبي”، ولا هي تشبه مرحلة ما بعد حرب تموز 2006 وتداعياتها والقرار 1701 .
إن مرحلة ما بعد 7 تشرين الأول، أقل ما يقال فيها وعنها إنها مرحلة مجهولة المعالم والمؤشرات: فلا أحد يعرف كم ستطول، فهي مرتبطة بالحرب في غزة التي لا يُعرَف كم ستطول أيضاً. الثمن الأول سيدفعه جنوب لبنان، فأهالي الجنوب لن يكونوا مطمئنين لأن قواعد الأشتباك تغيَّرت، لا بل انقلبت رأسًا على عقب . والقرار 1701، صار نظريًا أكثر مما هو عملي ، وبات يشبه القرار 425 الذي استلزم قرابة الربع قرن لتطبيقه، فيما القرار 1701 يترنح خصوصاً بعد إطلاق أحد المتهمَيْن في قتل الجندي الإيرلندي، “لدواعٍ صحية” ، وعملية الإطلاق هذه تركت أثرًا سيئًا على سمعة لبنان في أروقة الأمم المتحدة في نيويورك.
وحين لا يكون جنوب لبنان بخير، لا يكون لبنان بخير، هذه الحقيقة معروفة منذ تدحرج لبنان إلى بداية وجود سلطتين عسكريتين فوق أرضه، اعتبارًا من العام 1969، منذ ذلك التاريخ بدأ افول العصر الذهبي للبنان، والجميع يعلم ان باب الحرب وباب السلم عنوانه الجنوب.
في الخلاصة، المنطقة كلها ستتغيَّر، ولبنان جزء أساسي منها، بعض التغير سيكون إيجابيًا وبعضه سيكون سلبيًا، وسيكون لبنان، للأسف، في الجانب الذي ستطغى فيه السلبيات والمضاعفات السلبية، فهو الخاصرة الأضعف.
في مرحلة ما بعد حرب غزة، مَن سيتحدث عن مآل اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين؟ كيف سيكون هناك حديث عن عودة الفلسطينيين ورفض التوطين، فيما المطروح حاليًا تهجير الفلسطينيين من غزة ؟ واستطرادًا، ماذا عن النازحين السوريين الذين توقف الحديث عنهم منذ اندلاع حرب غزة ؟ انتعش الحديث عن نازحين ولكن لبنانيين، من الجنوب، وعن ارتفاع منسوب الهجرة من لبنان … إلى الخارج ، وهكذا يكون لبنان عالقًا بين الاستنزاف العسكري في الجنوب والنزف البشري إلى الخارج .