كما كان متوقعاً، لم تتأخر باريس في محاولة العودة الى لبنان من باب الوساطة لمعالجة الملفات المتراكمة، بدءاً بالاستحقاق الرئاسي. هذه العودة كانت مرتقبة من خلال التصحيح الذي قامت به فرنسا في موقفها من الحرب في غزة. وكان موقف الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في الايام الاولى لبدء الحرب، منحازا بقوة الى جانب اسرائيل. وعبّر عن ذلك من خلال الزيارة السريعة التي قام بها الى تل ابيب، والمواقف التي اعلنها من هناك.
لكن هذا الموقف، بدأ يتغير، الى ان وصل الى مرحلة الانتقاد الواضح للدولة الاسرائيلية، وللنهج الذي تنتهجه في غزة، من خلال قتل الابرياء بذريعة مقاتلة “حماس”. ومع ان باريس اضطرت الى تبرير، ومحاولة تخفيف وطأة هذه التصريحات، الا أن الرسالة وصلت. ولم يكن موقف ماكرون المناهض للسلوك الاسرائيلي منفردا، ذلك انه ترافق مع استمرار فتح قنوات التواصل مع قيادة حزب الله، بالاضافة الى استمرار التواصل مع طهران. وكان الهدف من ذلك، اعادة التوازن الى العلاقات الفرنسية مع المنطقة، وتصحيح ما كادت تفقده باريس لجهة كونها وسيطا مقبولا من قبل كل الاطراف.
وكان لافتا الدور الصامت الذي لعبته باريس في موضوع الوساطة القطرية للافراج عن الرهائن. هذا الدور كان موضع تقدير من قبل طهران وقيادة حزب الله. وبالتالي، شقت فرنسا طريقها مجددا نحو استعادة دور الوسيط في الملف اللبناني بموافقة ودعم من حزب الله.
وجاء الاعلان عن عودة الموفد الفرنسي جان ايف لودريان الى بيروت في الايام المقبلة، بمثابة مؤشر اضافي الى استعادة فرنسا للثقة التي كانت تتمتع بها في علاقتها مع اطراف لبنانيين، في مقدمهم حزب الله. ولا شك في ان عنوان الوساطة الفرنسية هو الاستحقاق الرئاسي، وهذا الامر اشار اليه لودريان بوضوح، عندما كشف عن قرار العودة الى لبنان بطلب من الرئيس الفرنسي. وقد اشار المبعوث الى انه “ليس مطمئنا الى الوضع في لبنان نظرا للاحداث الاخيرة في منطقة الشرق الاوسط، والحرب تطرق ابواب لبنان ولا يوجد رئيس للجمهورية والمجلس النيابي لا يجتمع، لذلك من الضروري التخلي عن عقلية المنافسة وانتخاب رئيس للجمهورية”.
انطلاقا من هذا العنوان، عادت الحياة الى الملف الرئاسي. ومن المتوقع ان يعود المشهد الرئاسي الى واجهة التطورات الداخلية، مع عودة الاتصالات والمشاورات بين القوى السياسية، استعدادا للتوافق على كيفية التعاطي مع الوساطة الفرنسية المتجددة، والتي تأتي هذه المرة تحت ضغط “المدفع”، اي القلق من تداعيات الحرب، وامكان امتدادها الى لبنان بشكل كامل. فهل يعني ذلك، ان التعنّت الذي كان قائما من قبل معظم الاطراف السياسية قد يتغير اليوم؟
قد يكون السؤال الأهم يرتبط بالطرح الذي قد يعود به الفرنسيون الى لبنان. وقد واجهوا في المرة الاولى، عندما اقترحوا معادلة تقضي بانتخاب سليمان فرنجية، مقابل تولي نواف سلام رئاسة الحكومة، والتفاهم على سلة متكاملة، رفضا قويا، خصوصا من قبل الكتل المسيحية، بما اضطرهم الى التراجع. وفي المحاولة الثانية، أشرك الفرنسيون القطريين في الوساطة، وحاولوا الوصول الى مساحة مشتركة بين الاطراف الداخلية، لكنهم لم يوفقوا ايضا.
يبقى السؤال، هل تكون الثالثة ثابتة؟
حتى اليوم، لم تتوضح الركائز الاساسية التي يعود بها الفرنسيون الى ساحة الاستحقاق الرئاسي، ولو ان البعض بدأ يغمز من قناة “عودٌ على بدء”، اي محاولة احياء الفكرة الاساسية لجهة الثنائي فرنجية-سلام. لكن هذا الترويج المبكر لا يستند الى معطيات ثابتة. ولا توجد مؤشرات توحي بامكان تغيير الاطراف الداخلية لمواقفها، ولو ان هناك من يهمس بأن موقف التيار الوطني الحر، ورئيسه جبران باسيل قد اصبح اكثر ليونة حيال وصول فرنجية الى بعبدا. ويستند من يروّج لهذا الامر، الى الزيارة التي قام بها رئيس التيار جبران باسيل الى بنشعي، والتي أدّت بالحد الأدنى الى كسر الجفاء الذي كان قائما في علاقة الرجلين. صحيح ان فرنجية وباسيل حرصا على التأكيد ان نتائج الزيارة لا علاقة لها بالاستحقاق الرئاسي، ولكن ذلك لا يمنع ان امكانية التفاهم على الاستحقاق بين الرجلين اصبحت ميسّرة اكثر مما كانت عليه في المرحلة السابقة. كما ان موقف حزب الله حيال مسألة تجميد ملف التمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون، لمراعاة خاطر التيار الوطني الحر، والرئيس السابق ميشال عون، لها تأثيرها على الموقف الذي سيتخذه التيار في المرحلة المقبلة.
بانتظار عودة لودريان، ستنشط الاتصالات، وستعود الحيوية الى المشهد السياسي الداخلي، وستتكشّف المواقف، والتي على اساسها يمكن التكهّن اذا ما كانت مهمة الفرنسيين ستتكلل بالنجاح هذه المرة، ام ستنضم الى لائحة المحاولات السابقة الفاشلة.