لا يمكن فصل مفاعيل الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى الرياض، عن الدور السياسي والاقتصادي الذي تسعى المملكة الى لعبه في المرحلة المقبلة. ولا شك في ان الزيارة تأتي كتتويج لنهج اتبعته القيادة السعودية، بقيادة ولي عهدها الامير محمد بن سلمان. ومن راقب هذا النهج، على المستويين السياسي والاقتصادي، وحتى الاجتماعي، لاحظ التغيير الجذري الذي باتت تتمتّع به السعودية، والذي تريد من خلاله توجيه رسالة الى العالم، مفادها انه بات يتعامل مع “نيو سعودية”، وعليه ان يؤقلم حساباته مع هذا الوضع الجديد.
وبما أن الولايات المتحدة هي الحليف الاول والاهم للسعودية عبر التاريخ، فقد حاولت واشنطن الافادة من هذا التغيير حيث يطابق مصالحها، والتصدّي له ومحاولة إجبار المملكة على تغيير بعض المسارات، حيث تكون المصالح الأميركية مُهدّدة. لكن هذا الاسلوب لم ينجح، وثبتت القيادة السعودية على السياسة الجديدة التي تبنّتها، بحيث ان النهج بات اشبه بسلّة متكاملة، على الدول الاختيار بين القبول بها كاملة، او رفضها بالكامل.
وبالتالي، رفضت القيادة السعودية ان يكون تعاطي الدول العظمى معها وفق اسلوب الانتقاء على طريقة اختيار الاطباق في المطعم ضمن لائحة الطعام (menu).
هذا النهج توضّح في خلال أزمات ارتفاع اسعار النفط، حيث راهنت الادارة الاميركية في حينه على قدرتها على “المونة” على الرياض من اجل زيادة ودوزنة الانتاج بهدف لجم وخفض الاسعار. لكن حسابات الادارة الاميركية كانت خاطئة، برغم “التنازل” الذي قدمه الرئيس الاميركي جو بايدن في حينه، وقيامه بزيارة رسمية الى المملكة. وقد عاد بايدن خائبا، وواصلت السعودية سياسة خفض الانتاج للحفاظ على استقرار الاسعار في سوق المحروقات، الامر الذي عرّض بايدن للانتقادات في الداخل الاميركي.
هذا النموذج كان واحدا من اكثر النماذج وضوحاً، حول وجود قرار لدى القيادة السعودية بالتعاطي باسلوب مختلف مع كل الدول، بما فيها الدولة العظمى والمصنّفة حليفاً استراتيجياً للمملكة. واللافت هنا، ان السعودية نسّقت وتعاونت مع روسيا في هذا الموضوع، ضمن منظمة اوبك بلاس، واتخذا قرارات مشتركة في موضوع خفض الانتاج، استنادا الى ظروف السوق. وقد اكدت السعودية انها ستواصل انتهاج سياسة نفطية مستقلة عن الاعتبارات السياسية، وان قرارتها في هذا المجال، ستحكمها متطلبات السوق فقط.
في موازاة هذه النماذج، لا بد من التوقّف عند الاتفاقات الاقتصادية والاستثمارية التي عقدتها السعودية مع الصين، رغم معرفتها بحساسية هذا الملف، ربطاً بالعلاقات الاميركية الصينية السيئة، حيث كانت واشنطن تعتبر ان بكين هي “الخصم” الاول لها، وكانت تركّز سياستها الخارجية وفق مبدأ اعطاء الاولوية للجم خطط الصين التوسعية في العالم. وكذلك أقدمت السعودية على خطوة متقدمة اكثر، من خلال الموافقة على الوساطة الصينية التي أثمرت اتفاقا تاريخيا بين السعودية وايران برعاية صينية، حيث جرى توقيع اتفاق التفاهم في بكين.
كل هذه النماذج انما تقود الى قناعة مفادها ان الـ”نيو سعودية”، ولو انها لا تتنكّر لتاريخها، إلا أنها تختلف كثيرا في سياستها ونهجها عن السعودية التي كان يعرفها العالم قبل تولي القيادة الجديدة مقاليد الحكم والقرار.
ومن خلال هذه الحقائق، يمكن استيعاب اهمية الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي الى المملكة. ولا شك في ان النتائج ستنعكس في السياسة والاقتصاد. وتؤكد الزيارة اهتمام موسكو بتوطيد العلاقات مع السعودية، بعدما نجحت تجربة التعاون على مستوى اسواق النفط، وحماية مصالح البلدين. كما ان الاقتصاد الروسي، الذي واجه بنجاح جزئي، تداعيات العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليه الولايات المتحدة والدول الاوروبية، يحتاج الى فتح مسارات متعددة، تحميه من العزلة التي تهدف اليها العقوبات الغربية ضده. ولم يأت اختيار السعودية من عدم، اذ ان موسكو تعرف الثقل الاقتصادي الذي تمثله المملكة في دول مجلس التعاون الخليجي الغنية، وفي دول المنطقة العربية بشكل عام. وبالتالي، تعرف موسكو ان الرياض، بالاضافة الى كونها محطة اقتصادية استثنائية، هي ايضا بوابة عبور الى كل دول الخليج العربي. ومن البديهي ان يكون بوتين سعيدا وراضيا عن نتائج تطوير العلاقات مع دول محسوبة تاريخياً وتقليدياً على الغرب بقيادة الولايات المتحدة الاميركية.
يبقى السؤال، ما هي المساحة المتاحة امام السعودية في موضوع تعميق العلاقات مع دولٍ تُصنّفها واشنطن في خانة “الاعداء”؟
حتى الآن، نجحت الرياض في فرض ايقاعها في حياكة العلاقات في كل الاتجاهات. ولا توجد مؤشرات حتى اليوم، على ان هذا المسار قد يتغيّر في المدى المنظور.