مع انتهاء الانتخابات في مصر وفوز الرئيس عبد الفتاح السيسي بولاية ثالثة، عاد الملف الاقتصادي الساخن الى الواجهة، بعدما كان جرى تأجيل بعض الاجراءات المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي، لتمرير الانتخابات. ومن ابرز تلك الاجراءات ما يتعلق بخفض اضافي في سعر الجنيه المصري، بما يعني خفضاً في القدرات الشرائية للمواطن المصري، وصولاً الى تحرير سعر الصرف وتوحيد الاسعار للانتهاء من معضلة وجود اكثر من سعر صرف للعملة المصرية. وهناك سعر صرف للدولار في البنك، وسعر آخر لدولار السوق الموازية، وسعر دولار الذهب، ودولار المواد الغذائية.
هذا التعدّد في أسعار سعر الصرف، يحرم مصر من الاستثمارات الاجنبية التي تتحاشى الدخول الى السوق المصري بسبب هذه المعضلة. كما ان استمرار تعدّد اسعار الصرف، والامتناع عن اجراء خفض اضافي في سعر الجنيه، يعطّل استكمال اتفاقية القرض الاخير مع صندوق النقد الدولي، والتي يُفترض ان تحصل مصر بموجبها على 3 مليارات دولار. وقد تمّ الافراج عن دفعة اولى من القرض بلغت 347 مليون دولار، ولم يتمّ الافراج عن دفعات اخرى، بانتظار اجراء مراجعة لما نفذته السلطات المصرية من خطوات اصلاحية مطلوبة.
في المقابل، تدرك السلطات المصرية ان مسألة تحرير سعر صرف الجنيه، ورغم ايجابياتها المفترضة على جذب الاستثمارات الخارجية، الا أنها محفوفة بالمخاطر بسبب انعكاساتها على حياة المصريين اليومية على المديين القصير والمتوسط.
ولكن الحصول على قرض صندوق النقد، ورغم ان قيمته الاجمالية ليست كافية لانتشال الاقتصاد المصري من المأزق القائم، اصبح ضرورياً مع ارتفاع الضغوطات الاقتصادية والمالية. وفي أحدث الارقام المسجّلة، يتبيّن ان إجمالي الدين الخارجي لمصر وصل الى نحو 164.7 مليار دولار في نهاية حزيران/ يونيو 2023، وفقاً للبنك المركزي المصري.
كما سجّل معدل التضخم السنوي، في شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي رقماً قياسياً جديداً بعدما قفز إلى 40.3 في المئة، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الحكومي. ورافق هذا التضخم ارتفاع في أسعار الطعام والمشروبات والسلع الأساسية، ومن ضمنها الأرز والزيت والدقيق، وهي المواد الاساسية التي تعتمد كمقياس اولي في احصاءات اسعار الغذاء، على اعتبار انها مواد اولية يحتاجها الفقراء حكماً، حتى من كان يعاني بينهم الفقر المدقع.
ولم يكن ينقص الاقتصاد المصري، الذي عانى في السنوات الاربع الأخيرة من ازمات متتالية، بدءاً بجائحة كورونا، مروراً بالغزو الروسي لأوكرانيا، وأزمة الحبوب، والصراع في ليبيا، والحرب في السودان، والحرب في غزة، سوى أزمة البحر الاحمر، لكي تزداد المخاوف حيال انهيار اضافي في الوضع. ومنذ ان تحركت قوات الحوثي في اليمن، وبدأت بتهديد الملاحة البحرية في المنطقة، حتى شعرت السلطات المصرية بالخطر المحدق بمداخيل قناة السويس. وترسّخت هذه المخاوف اكثر مع اعلان شركات الشحن البحري العالمية الكبرى وقف المرور في المنطقة، وتوجيه السفن حول رأس الرجاء الصالح لتجنّب هجمات محتملة للحوثيين. ورغم ان السلطات المصرية المُشرفة على تسيير العمل في القناة، لم تلحظ انخفاضاً يُعتدُّ به للقول ان الحركة الى تراجع، الا ان الانخفاض الدراماتيكي سيظهر بعد فترة وجيزة، على اعتبار ان السفن الضخمة التابعة للشركات العالمية التي قررت عدم عبور البحر الاحمر، والتي كانت موجودة في المنطقة لحظة اتخاذ القرار، واصلت سيرها وفق المخطط القديم وعبرت القناة، لكن السفن الموجودة خارج المنطقة ستسلك المسار الجديد الذي حددته تلك الشركات.
حتى الان، لا توجد احصاءات دقيقة عن نسب الخسائر التي قد تُمنى به مصر جراء ما يجري في البحر الاحمر، لكن المؤكد ان الخسائر واقعة، وستزيد من مشكلة الدولار في البلد، على اعتبار ان قناة السويس، الى جانب السياحة، هما المصدر الاساسي للعملات الصعبة. ومن البديهي ان السياحة ستتأثر نسبياً باجواء حرب غزة، حيث قد تتراجع هي الأخرى، بما يعني ان ايرادات مصر من العملات الاجنبية ستتعرّض لنكسة، في وقت كانت السلطات تأمل وتعمل على زيادة هذه الايرادات لتحصين الوضع المالي، والنجاح في تلبية شروط صندوق النقد، بأقل انعكاسات ممكنة على سعر العملة المصرية لحماية القدرات الشرائية للمصريين. لكن هذا الرهان سقط حالياً، وسيكون على مصر مواجهة الوقائع كما هي. وهذه هي التحديات الصعبة والخطيرة التي سيكون على الرئيس السيسي مواجهتها واتخاذ قرارات في شأنها، في ولايته الثالثة التي بدأت للتو.