ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الاحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي.
بعد الانجيل المقدس، القى الراعي، عظة بعنوان: كتاب ميلاد يسوع المسيح إبن داود إبن إبراهيم (متى 1: 1)، قال فيها: ميلاد يسوع هو ملء الزمن الذي سبقه بحسب تعبير القدّيس بولس (غلا 4: 4) وبالتالي هو بداية زمن جديد ننتمي نحن إليه، غايته البحث عن المسيح واللقاء به ونيل الخلاص. إنّ الحركة الإنحداريّة من الإله الإبن متجسّدًا، تقتضي منّا حركةً تصاعديّة عبّر عنها القدّيس إمبروسيوس بقوله: تأنّس الله ليؤلّه الإنسان. يسعدني أن أحيّيكم وأرحّب بكم جميعًا، مع تحيّة خاصّة للوفد من الرابطة المارونيّة مع رئيسها السفير خليل كرم، ولأعضاء لجنة وقفيّة سيّدة العناية في أدونيس-جبيل، برئاسة عزيزنا الأب أنطوان خضرا. كما يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، ونحن على مسافة يوم من الإحتفال بذكرى ميلاد ربّنا وإلهنا يسوع المسيح، الذي بكتاب نسبه يعلن إنتماءه إلى الجنس البشريّ إنسانًا بين الناس، من سكّان هذا العالم، خاضعًا للشريعة والمؤسّسات المدنيّة، ولكن مخلّصًا للعالم أيضًا. كتب عنه المعلّم أوريجانس: إبن الله الذي اكتتب في الإحصاء المسكونيّ مع البشريّة جمعاء، إنّما أراد أن يحصي الناس أجمعين معه في سفر الأحياء، ويسجّل في السماء مع القدّيسين كلّ الّذين يؤمنون به.
وتابع: يا لمحبّة الله العظمى! ويا لعظمة الإنسان في عينيّ الله! هذا اليوم يدعونا جميعًا للمحافظة على كرامتنا كما يريدها الله، وعلى كرامة كلّ كائن بشريّ وقدسيّته. فلا يحقّ لأحد العبث بكرامة أيّ إنسان، ولا الإعتداء على حياته وقدسيّتها، فقد إفتداه المسيح بدمه على الصليب. على هذا الأساس تدين الكنيسة أشدّ الإدانة أيّ تعدٍّ على الإنسان، قتلًا وتعذيبًا وظلمًا وقهرًا وتعسّفًا. تبدأ شجرة نسب يسوع بإعلان هويّته: هو إبن داود أي المسيح الملك الجديد المنتظر؛ وابن ابراهيم أي محقّق مواعيد الله الخلاصيّة لإبراهيم ونسله. هو إله متجسّد، كاملٌ بطبيعته البشريّة. هو موسى الجديد والمعلّم الأوحد للشريعة، وهو عمّانوئيل إلهنا معنا (متى 1: 23)، الباقي معنا طول الأيّام إلى إنتهاء العالم (متى 18: 20). لقد جعلنا المسيح نحن البشر شركاء في هويّته المزدوجة: شركاء في ملوكيّته، لننعم بحريّة أبناء الله. فنعمل من أجل نشر الحقيقة ودحض الباطل، وندافع عن العدل، ونعزّز السلام، ونبسط ثقافة المحبّة. نرفض النزاعات والحروب، ونعتمد الحوار والتسويات السلميّة العادلة. لذلك ندين أشدّ الإدانة كلّ حرب، على الأخصّ هذه الحرب الإباديّة الوحشيّة الدائرة على سكّان غزّة، الرافضة لأي هدنة، وأي وقف للنار وللتفاهم. ونرفض رفضًا قاطعًا تداعياتها أو إمتدادها على قرى جنوبيّ لبنان. ونقول باسمنا وباسم كلّ لبنانيّ: لا للحرب! كفانا حربًا أوصلت لبنان إلى ما هو عليه اليوم من إنحطاط وبؤس وخسارات على كلّ صعيد. ليس لبنان أرضًا للحرب أو أداة لها، بل هو أرضٌ للحوار والسلام. وجعلنا المسيح شركاء في البركات والوعود الإلهيّة لإبراهيم، التي تحقّقت كاملةً في شخصه، وجعلها إرثًا روحيًّا لكلّ مولود في سلالة البشر.
وأضاف: إنّ مجموعة الأجيال الثلاثة المنسّقة في أربعة عشر جيلًا ترمز إلى مسيرة شعب الله نحو المسيح الذي هو محور البشريّة والتاريخ.
المجموعة الأولى، من إبراهيم إلى داود هو مسيرة الإيمان من إبراهيم حتّى تنظيم الملوكيّة مع داود، وتُسمّى عهد الآباء.
المجموعة الثانية من داود إلى سبي بابل تسمّى عهد الملوك والخطيئة.
المجموعة الثالثة من سبي بابل إلى المسيح. ترمز إلى أمانة الله لوعده، لأنّه صادق وأمانته إلى الأبد. وتُسمّى عهد المنفى.
كتب أحد الآباء الروحيّين: يتّضح من الأجيال الأريعة عشر المثلّثة أن الله هو سيّد التاريخ، وقادر على الدخول إليه وتحويله من تاريخ خطيئة وشرّ إلى تاريخ نعمة وقداسة. لقد دخل الله تاريخنا عبر باب مريم، ولم يبتعد عنه بسبب خطايا البشر، ولم يقرّر تدمير التاريخ وإعادة الخلق، بل حلّ في داخله ليحوّله إلى مثاله، وليحوّله من تاريخ ألم وخطيئة وموت، إلى تاريخ نعمة وبركة وحياة، تتداخل فيه الألوهة بالإنسانيّة. وبتعبير أوضح، يدخل يسوع في تاريخ يضمّ خطأة وأبرارًا وقدّيسين. ما يعني أن تاريخنا هو تاريخ صراع متواصل، صراع أشخاص قاوموا الخطيئة وسعوا إلى الخلاص. هذا هو تاريخنا، الذي لم يضع له الله خاتمة، بل سمح له بالإستمرار. ولئن دخل فيه فلكي يعطيه الخلاص. ونحن كمسيحيّين نجد ذواتنا معنيين بإعطاء المسيح إلى تاريخنا اليوم، من خلال قبولنا له في حياتنا، والسماح له بتحويلنا على مثاله (الأب يونان عبيد: يسوع موعد حبّ، ص 67).
وقال: في سياق امتداد الحرب الدائرة بين إسرائيل وحماس في قطاع غزّة، إلى جنوب لبنان خلافًا لقرار مجلس الأمن 1701، ووقوع ضحايا لبنانيّة، وهدم منازل، واتلاف بساتين وأحراش، وتهجير أهلنا هناك، نعود فنكرّر وجوب عودة لبنان إلى ذاته، أي إلى حياده الإيجابيّ الناشط في رسالته، كأرض للتلاقي والحوار، وكصاحب دور في حلّ النزاعات بالطرق السلميّة، وكمدافع بالطرق الديبلوماسيّة عن الحقوق المسلوبة في أي بلد عربيّ، وفي طليعتها حقوق الشعب الفلسطيني بالعودة إلى أرضه، وبإقرار دولة خاصّة به. ليس حياد لبنان أمرًا جديدًا أو ابتكارًا. بل هو من صميم هويّته. فيرقى إلى سنة 1860، زمن المتصرّفيّة، فإلى ما قبل إعلان دولة لبنان الكبير بشهرين، وتحديدًا في 10 تمّوز 1920، إذ أعلنه مجلس إدارة المتصرّفيّة حيادًا سياسيًّا بحيث لا يحارِب ولا يحارَب، ويكون بمعزلٍ عن أيّ تدخّل حربيّ. ثمّ تكرّس الحياد في الميثاق الوطنيّ (سنة 1943) بحيث ينعم لبنان بالإستقلال التام عن الدول الغربيّة والعربيّة. فلا وصاية ولا حماية، ولا امتياز، ولا مركزًا ممتازًا لأيّ دولة من الدول … (الشيخ بشارة الخوري). ومذ ذاك الحين ظهر الحياد أو التحييد في جميع البيانات الوزاريّة. ويجد حياد لبنان جذوره أيضًا في ميثاق جامعة الدول العربيّة سنة 1945، وفي مجمل أعمالها الإعداديّة ومداخلات اللبنانييّن. فكان الإجماع على ان يكون لبنان دولة مساندة لا دولة مواجهة، وأن يكون لبنان عنصر تضامن بين العرب، وليس عامل تفكيك وتغذية للنزاعات العربيّة، وخروجًا عن التضامن العربيّ لصالح استرتيجيّات لا تخدم المصالح العربيّة المشتركة. ثمّ كان بيان بعبدا في 11 حزيران 2012 الذي وافقت عليه بالإجماع الكتل السياسيّة مؤكّدًا حياد لبنان بتعبير النأي بالنفس، واعتمده مجلس الأمن من بين وثائقه (A/66/849, S2012/477). وفي 19 آذار 2015، طالب الفئات اللبنانيّة بتطبيقه نصًّا وروحًا (راجع دراسة البرفسور أنطوان مسرّة: التزام حياد لبنان في إطار جامعة الدول العربيّة).
وختم الراعي: فلنصلِّ، لكي يكون الجميع، ولا سيما السياسيّون، ملتزمين بناء تاريخ ناصع بقيمه الروحيّة والسياسيّة والإجتماعيّة، تمجيدًا للثالوث القدّوس، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.