فيما يحتفل العالم أجمع بعيد الميلاد المجيد، إستطاعت إسرائيل أن تمنع الفرح في ليلة الميلاد السعيدة، عن الفلسطينيين. الفلسطينيون الذين لطالما تشاركوا الأفراح في الأعياد الإسلامية والمسيحية (حتى اليهودية قبل احتلال الصهيونية لفلسطين عام ١٩٤٨) نسوا الفرح هذا العام. فغزة المحاصرة بالحديد والنار، لم يعد فيها مساحة من هدوء أو مجموعة من أناس. والضفة الغربية المحتلة، يصول فيها الجيش الإسرائيلي ليعيث فساداً في أهلها وشوارعها. أما الأطفال، التواقون للعيد والهدايا فباتوا ينتظرون بصيص أمل في ابتسامة من هنا أو سعادة من هناك. لكن كيف تأتي السعادة من عدو يتربص بالفلسطينيين ويرى فيهم «حشرات» لا تستحق إلا السحق! (أعتذر من الفلسطينيين، ومن القراء على هذا التشبيه).
والحقيقة أن إسرائيل لا ترى في العالم من هو أفضل من شعبها «المختار». والناس كل الناس عليهم أن يكونوا عبيداً لها، وهذا ما بدا عليه الوضع غداة عملية السابع من تشرين الأول عندما أتى الأميركيون والأوربيون وغيرهم إلى الأراضي المحتلة كي يعلنوا دعمهم غير المحدود لإسرائيل على الصعد السياسية والعسكرية والمالية. وأما الفلسطينيون وعلى الرغم من احتلال أرضهم منذ ٧٥ عاماً فإن قليلاً من البلدان أيد قضيتهم على الرغم من أحقية أي شعب محتل في مقاومة الاحتلال وتحرير أرضه مهما كانت الصعوبات. بهذا الكلام، لا أتبنى شخصياً أيديولوجية «حماس» التي أختلف معها في كثير من المواقف السياسية، لكن تحرير الأرض هو واجب. وأما قصف إسرائيل الإجرامي الوحشي لأهل غزة فهذا ما لا أقبل به وأكتب عنه، وأضم صوتي إلى الداعين بإلحاح وبأعلى صوت، إلى وقفه ومحاسبة المجرمين. لذلك فإن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في غزة، مطلوبة من كل شعب احتلت أرضه وعاث الاحتلال بها انتهاكاً.
الاحتلال الإسرائيلي لم يعث فساداً في الأرض فحسب وإنما عاث فساداً في الأرض والسماء، والبنيان والإنسان. الأرقام التي وصل إليها الإجرام الإسرائيلي بحق أهل فلسطين الأصليين، صارت مهولة.. مخيفة. وهؤلاء للتذكير، لهم أسماء وأعمار، وأهل وأقارب، وأصدقاء ومحبون، وجيران ومدارس، وأماكن.. وحيوات (جمع حياة). لكن الحياة نتيجة قصف إسرائيل غير الإنساني، صارت موتاً. حتى كتابة هذا المقال، وصلت أعداد الشهداء والجرحى في غزة منذ بدء العدوان المجرم على أهلها، في السابع من تشرين الأول، عشرين ألفاً و٤٢٤ شهيداً، و٥٤ ألفاً و٣٦ جريحاً. لم تحدد هذه الإحصائية بالتفصيل، عدد الشهداء من الأطفال والنساء لكن تقارير سابقة لليونيسف كانت قد أفادت أن «غزة هي المكان الأكثر خطورة على الأطفال في كل أنحاء العالم». فيما كشفت هيئة الأمم المتحدة للمرأة أمس الأحد أن اثنتين من الأمهات تُقتلان كل ساعة في قطاع غزة. جاء ذلك في تدوينة نشرتها الهيئة على حسابها عبر منصة «أكس».
وبحسب تقديرات هيئة الأمم المتحدة للمرأة «تُقتل اثنتان من الأمهات كل ساعة في غزة». وأكدت الهيئة الأممية أن «أطفال غزة يفقدون حبل الأمان الوحيد، ألا وهو والداهم». واختتمت هيئة الأمم المتحدة للمرأة بالقول: «يجب أن يتوقف هذا».
لكن من يوقف «هذا»؟ «الجينوسايد» الإسرائيلي ضد أهل البلد الأصليين، مستمر بلا توقف، على الرغم من الخسائر الهائلة التي يمنى بها الجيش الإسرائيلي الذي أذاقته حماس وأخواتها المرّ. برأي مراقبين فقد وصل الحال عند كل من المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال إلى نقطة اللاعودة. بالنسبة لما يقوله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وغيره من مسؤولين سياسيين وعسكريين، فإنه «لا يمكن لإسرائيل أن توقف النار كي لا تستطيع حماس أن تعيد رص صفوفها من جديد». يقولون إن إسرائيل مستمرة في الحرب. وأما بالنسبة للمقاومين فهم «ميتون، ميتون» كما يقول المثل الدارج. بمعنى أنهم استشهاديون «يحملون أكفانهم على أكتافهم» وهم يقاتلون ببسالة وشراسة بما توفر لهم من أسلحة. وبرأي الخبير العسكري الذي يظهر على قناة الجزيرة اللواء المتقاعد فايز الدويري فإنهم «يعيدون تدوير صواريخ إسرائيلية غير منفجرة ليستخدموها قنابل موقوتة ضد مركبات الجيش الإسرائيلي». كما أن هؤلاء الفدائيين يعرفون أنهم إذا وقعوا أسرى لدى جيش الاحتلال فإنهم سيخسرون حيواتهم وربما يقوم الاحتلال بمعاقبة أهلهم، هذا إن كان أهلهم أحياء أصلاً. فقوات الاحتلال تقصف قطاع غزة من دون تمييز بين عسكري ومدني، ولا تميز بين شمال وجنوب، والقصص التي يرويها من تبقى من الأحياء في غزة يكاد لا يصدق. حتى الصحافيون الذين ينقلون في العادة الأخبار، صاروا هم «الخبر». فقد قتلت إسرائيل أكثر من مئة صحافي (١٠٣ حتى كتابة هذا المقال) منذ بدء عدوانها إضافة إلى أهاليهم وجيرانهم وأقاربهم. الكل مطلوب رأسه. لا فرق بين فلسطيني وفلسطيني.
عودة إلى العيد. كيف مرّ عيد الميلاد المجيد، وهو رمز عالمي للسلام والمحبة؟ لم يمرّ العيد على غزة. أوقفه حاجز إسرائيلي ومنعه من الظهور. العيد في الأصل هو للأطفال، وأطفال غزة .. أموات. رُويت قصص عن أكثر من طفل، استشهد أهله وبقي وحيداً. لكن حتى هذا الوحيد، عاد جيش الاحتلال ليقصفه مرة أخرى، كي ينضم إلى أهله الشهداء!
ليلة العيد، قتلت إسرائيل عشرات الناس ودمرت مئات الأبنية وأشجار الزيتون، وفجّرت مئات المغارات. كيف سيولد السيد المسيح في مغارة في فلسطين وسط هذا الكره وهذا القتل وهذه الإبادة الجماعية؟ الميلاد يلزمه سلام. الميلاد يلزمه عائلة «على قيد الحياة». الميلاد هو «هدية». إسرائيل قتلت في فلسطين كل شيء. إسرائيل.. قتلت الميلاد!