يصعب الرهان منذ الان على المسار الذي سيتخذه الوضع المالي والاقتصادي خلال العام الجديد. لكن بعض المؤشرات توحي، حتى الآن على الأقل، بأن خطر الجمود والاستمرار في النزف، من دون الولوج الى الحلول الجذرية قد لا يكون مستبعداً، وهذا أخطر ما قد يواجهه البلد في العام 2024.
هذا التخوّف لا ينبع من فراغ، بل يستند الى مجموعة معطيات، قد يكون ابرزها ما يلي:
اولا- ان الدولة التي واصلت سياسة النعامة من خلال دفن الرأس في التراب، طوال اربع سنوات ونيف، لا يتوفر اي مستجد يسمح بالاعتقاد، انها ستغيّر هذا السلوك الانتحاري في العام الجاري.
ثانيا- تداعيات حرب غزة، سيما لجهة تجميد نشاطات مكتب صندوق النقد الدولي في بيروت، قد تشكّل ذريعة تختبئ وراءها السلطة لمواصلة نهج الانكار، والاعتماد على شراء الوقت من دون رؤية لما قد يحصل لاحقاً.
ثالثا- سيساهم استمرار الفراغ الرئاسي، في حال طال امده خلال 2024، في منح الدولة ذريعة اضافية الى جانب تجميد نشاطات صندوق النقد، لعدم اقرار الاصلاحات المطلوبة منها، على اعتبار انها تحناج الى قوانين، قد يعجز المجلس النيابي عن اقرارها، بسبب الموقف السياسي الذي يدعو الى عدم التشريع في غياب رئيس للجمهورية. ولا يمكن الاعتماد على مبدأ تشريع الضرورة، لأنه ليس مؤكدا اذا ما كانت القوى السياسية ستصنّف هذه القوانين في خانة الضرورة للموافقة على المشاركة في جلسات تشريعية لاقرارها.
رابعا- تجربة السنوات الاربع الماضية، قد تكون شجّعت السلطة اكثر على الرهان على الوقت، على اعتبار ان القطاع الخاص نجح في التأقلم نسبيا مع الوضع، بحيث أمكن وقف مسيرة الانكماش الاقتصادي. واذا أضفنا الى ذلك، مسألة ثبات سعر الصرف منذ نيسان 2023، والمستمرة حتى اليوم، يمكن الرهان على ان السلطة تشعر بنوع من الارتياح، على اعتبار ان التضخّم وارتفاع الاسعار قد تراجع الى مستويات متدنية.
خامسا- مشهد القطاع المطعمي، وبعض المشاهد التي توحي، ولو عن خطأ، بعدم وجود ازمة مالية واقتصادية تشكل بدورها مُعطى يشجع السلطة على الاستمرار في الاهمال والانتظار.
كل هذه المؤشرات، تثير القلق حيال الاستمرار في انتهاج سياسة الانكار والعجز. وقد يكون تقرير البنك الدولي، بالاضافة الى ما اوردته وكالة “موديز”، من الامور التي ستدفع السلطة اكثر فاكثر لمواصلة نهج الاهمال، انطلاقا من ان اقتصاد البلد سيبقى في وضع مقبول، بفضل تدفقات الاموال من الخارج.
وفي هذا السياق، تبين ان تدفقات اموال المغتربين تشكل حوالي 27% من الناتج المحلي. هذا الرقم يستند الى التحويلات فقط، ولا يشمل الاموال التي تدخل نقدا، او بطرق لا يعلن عنها، وبالتالي، فان مساهمة المال الاغترابي تتجاوز هذه النسبة. كذلك لا يتم احتساب الاموال التي ينفقها اللبنانيون الذين يزورون البلد بشكل دوري على مدار السنة. كذلك هناك اموال سوداء تدخل الى لبنان، ويتم تبييضها بطرق مختلفة، بما قد يعطي مؤشرا عن النسبة المرتفعة التي تساهم فيها تدفقات الاموال الى البلد، والتي قد تصل الى 45% من الناتج المحلي.
ومع ذلك، لن تكون الاموال القادمة من الخارج بديلا للانقاذ المالي والاقتصادي المطلوب، خصوصا مع ظهور مؤشرات توحي ببدء مرحلة من الخلافات بين مصرف لبنان والحكومة. اذ ان خطوة رفع سعر صرف “صيرفة” يأتي في هذا الاطار.
وتفيد المعلومات المتوفرة أن حاكم المركزي بالانابة وسيم منصوري، ينوي الضغط على الحكومة اكثر لدفعها الى الافراج عن خطة الانقاذ. وهو يقول ان خطوة تحرير وتوحيد سعر الصرف ستتم بعد اقرار الموازنة. لكن البعض يعتبر ان في هذا الموقف بعض الخبث والغموض، اذ ان منصوري يعرف ان هذا النوع من الضغوطات لن يوصل الى مكان. وبالتالي، يعتبر من ينتقد هذا القرار الاخير، ان منصوري يتصرف على اساس تبييض صفحته وصفحة مصرف لبنان، ولو على حساب المواطنين، وقدراتهم الشرائية. وهو يحاول ان يقول ان مهمته هي السياسة النقدية ليس إلا، وبالتالي، انه ليس مسؤولا اذا كانت الدولة لا تواكب هذه السياسة باجراءات تحمي فيها المواطن والاقتصاد الوطني. مثل هذا التصرف خطير، وقد تبرز نتائجه الكارثية بعد بدء تنفيذ قرار تحرير وتوحيد سعر صرف الدولار. وهذا الامر، سيدفع ثمنه كل اللبنانيين، دون استثناء.