أثار البيان المحاسبي الاخير الصادر عن مصرف لبنان، في شأن تبيان الوضع المالي للمصرف، وفق معايير الشفافية المعتمدة في المصارف المركزية في العالم، الكثير من اللغط والجدل. وتناقضت المواقف في تقييم البيان، سواء لجهة النص الذي واكب جدول الحسابات الذي تمّ نشره، او لجهة الحسابات نفسها وطريقة توزيعها في الجدول المرافق. هذا التناقض في التقييم دفع البعض الى اتهام حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري، بأنه يُحابي المصارف، ويتبنّى مواقفها لجهة التذكير بالمادة 113 من قانون النقد والتسليف، والتي تُلزم الدولة اللبنانية بتغطية خسائر مصرف لبنان.
واعتبر فريق آخر ان منصوري يتّبع اسلوب حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، من خلال تبنّي موضوع القروض التي ينبغي ان تدفعها الدولة لمصرف لبنان، وتبلغ حوالي الـ16,5 مليار دولار.
في المقابل، رأى طرف ثالث ان منصوري يحاول ان يحمي الدولة قانونياً، من خلال نقل بند الخسائر التي تراكمت في مصرف لبنان من بند خسائر مُحقّقة، الى بند خسائر مؤجّلة. وبهذه الطريقة، قد يفتح الباب امام تقليص حظوظ المصارف في كسب الدعوى ضد الدولة، والتي قد تتقدم بها بعد انتهاء مهلة الشهرين في 5 شباط 2024، في قضية مذكرة ربط النزاع، التي ارسلتها المصارف الى وزارة المالية للمطالبة بأن تدفع الدولة ديونها والمطلوبات عليها لمصرف لبنان، لكي يتمكّن الاخير من دفع ودائع المصارف المودعة لديه، لتتمكّن الاخيرة من تسديد الودائع للمواطنين.
كل هذه التناقضات في تقييم البيان الاخير الصادر عن المركزي، تعكس التخبّط الذي تواجهه كل الاطراف في تقييم الوضع المالي. وما قاله مصرف لبنان في بيانه الاخير، واضح، وينبغي ان يشكّل حافزا لتغيير اسلوب مقاربة الأزمة، والبدء في البحث عن حلول واقعية للانهيار، بدلا من الاستمرار في التلطّي وراء توزيع المسؤوليات، ووراء الادعاء ان الغموض يكتنف الطريقة التي ضاعت فيها الاموال. وحتى الآن، لا نزال نسمع خبراء، ولو انهم صاروا قلّة، يدّعون انه ليس صحيحاً ان الاموال ضاعت، لأن المودعين وضعوا اموالهم في البنوك، والبنوك وضعت الاموال في مصرف لبنان، والاخير اعطاها للدولة فأنفقتها على مدار السنوات، وصولا الى الانهيار وانكشاف الحقيقة.
هذا المسار الذي سلكته الأزمة أكده بيان المصرف المركزي للدولة. وهو قال بوضوح ان الخسائر التي مُني بها خلال سنوات، هي من مسؤولية الدولة، ولو انه قال في البيان نفسه، انه يدرك ان الخزينة غير قادرة حالياً على تسديد التزاماتها، وفق الماد 113 من قانون النقد والتسليف، ولذلك لجأ الى خيار تحويل الخسائر المتراكمة الى ما أسماه خسائر مؤجّلة. وفي الواقع، هي خسائر مُحقّقة، أي انها وقعت وانتهى الامر، لكن نقلها الى خانة المؤجّل، يعني ان مصرف لبنان يقول ان الدولة هي من يؤجّل الدفع ربطاً بوضعها المالي الذي لا يسمح لها حتى الان بتسديد التزاماتها المالية حيال مصرفها المركزي. وبناء على هذا الواقع، قام المركزي بالغاء الارباح التي يمكن تحقيقها جراء طباعة العملة الوطنية، وهو ما يُعرف بالـ seigniorage، في خطوة يُراد منها القول ان المركزي عاجز عن تعويض الخسائر المتراكمة من خلال طباعة العملة، وانه يتوقّع سد ثغرة الخسائر من الخزينة، عندما تُنجز الدولة خطتها الشاملة للتعافي، والتي ينبغي ان تتضمّن قرارها في شأن كيفية التعاطي مع التزاماتها المالية. وعلى هذا الاساس ربط البيان بين الخطة الشاملة، وبين الودائع والمصارف، في اشارة لا تحتمل اللبس الى الترابط بين ما ستقرره الدولة في شأن دفع التزاماتها، وبين مصير ودائع الناس، التي بات مصيرها رهنُ القرار الذي ستتخذه الدولة في هذا المجال.
من هنا، يمكن استخلاص اسباب الجدل الذي تبع صدور هذا البيان، على اعتبار ان الفريق الذي لا يريد الاعتراف بمسؤولية الدولة في دفع ديونها، اعتبر ان المصرف المركزي، قدم ما يشبه الوثيقة الرسمية التي يمكن اعتمادها للتأكيد على ان الدولة هي المسؤولة عن الاموال، وبالتالي، أسقط الادعاءات بأنه يمكن تصحيح الوضع من خلال تحميل المسؤولية للمصارف دون سواها. لكن الغريب، ان الدولة نفسها لم تعترض على بيان مصرفها المركزي، ربما لأنها لا تستطيع دحض الارقام والوقائع الواضحة، في حين انبرى البعض للقول ان الدولة مظلومة، وانها ليست مسؤولة عن الخسائر التي أوصلت الى الانهيار!