في خلال استقباله لوفدٍ يضمّ مصرفيين، قبل تسريب خطة “معالجة أوضاع المصارف في لبنان”، وهي التسمية التي أطلقتها الحكومة على خطة الانقاذ بنسختها الأخيرة، سُئل رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي من قبل احد الحاضرين، عن مضمون هذه الخطة، واذا ما كانت عادلة في توزيع الخسائر، فقال بعد تردّد، انها في الحقيقة ليست عادلة، وهي مُجحفة في حق القطاع المصرفي، ولكننا اضطررنا الى اعتماد هذا النهج، لكي نرفع من حظوظها في أن تمر في المجلس النيابي.
هذا الكلام يعبّر باختصار عن الطريقة التي يعتمدها المسؤولون في مقاربة ملفات حسّاسة، كما هي حال ملف الانقاذ الاقتصادي الذي تأخرت انطلاقته اكثر من اربع سنوات، وليس واضحاً بعد، اذا ما كان سينطلق يوماً ما، ام ان مصير الناس سيبقى في المجهول.
ما قاله ميقاتي خطير ومقيت، ولكنه لا يعكس كل الواقع. وما لم يقله رئيس حكومة تصريف الاعمال، ان الاجحاف الذي تحدث عنه، لا يطاول المصارف فحسب، بل الأهم انه يضرب حقوق المودعين، ويؤدّي الى ضياع اموال الناس، مع ما يعنيه ذلك من استحالة التعافي الاقتصادي في المدى المنظور.
لكن الجانب الآخر والأخطر في كلام ميقاتي بين الجدران الاربعة امام زواره، انه يعكس الواقع على حقيقته في الشق المتعلق بموقف النواب. وقد صار واضحاً، ان النواب في غالبيتهم ينتهجون الشعبوية في مقاربة ملفات حسّاسة، يرتبط فيها مصير المواطن ومستقبل البلد. هذا النهج تجلّى في اكثر من محطة، كانت بدايتها، مع إسقاط محاولات تمرير قانون للكابيتال كونترول، لأن النواب شعروا في حينه ان الناس ضد اجراء من هذا النوع. وعلى طريقة “ما يطلبه المستمعون”، منح النواب المواطنين ما أرادوه وأسقطوا الكابيتال كونترول، وسمحوا بتطيير مليارات الدولارات في السنوات الاربع الماضية.
وتعتبر قضية تسعير دولار المصارف من الشواهد الاخيرة على استمرار نهج الشعبوية في المجلس النيابي. فالقصة صارت معروفة، اذ جرت محاولة من قبل حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري لتمرير تسعيرة دولار السحب من المصارف في المجلس النيابي. ورغم ان منصوري يفضّل أن يبقى السعر ثابتاً على 15 الف ليرة في الوقت الراهن، بالتزامن مع اعطاء المودع 150 دولارا في الشهر وفق التعميم 166، إلا ان النائب علي حسن الخليل اقترح رفع السعر الى 25 الف ليرة. لكن النواب أسقطوا الاقتراح، وخرجوا ليسطّروا بطولات امام الناس، من خلال الادّعاء انهم أنقذوهم من تشريع هيركات قاسٍ، في حين انهم في الواقع حرموا المودعين من تحسين سعر السحب من 15 الف ليرة الى 25 الف ليرة!
ما فعله النواب في الواقع هو انهم رفضوا ان يتحمّلوا مسؤولية تسعير دولار المصارف، رغم علمهم بأن ذلك يساعد على تحسين ظروف المودع، ويخفّض نسبة الهيركات عليه، وفضّلوا أن يبقى الظلم قائماً في حق المودع، ما دام هذا الظلم مسؤول عنه طرفٌ آخر، وليس النواب.
هذه العقلية تنطبق على الجميع، بمن فيهم وسيم منصوري رغم الاداء الجيد الذي يقوم به في ادارة الأزمة. فالرجل يرفض ان يتولى اصدار تعميم يحدّد سعر الدولار المصرفي، بذريعة ان تعميماً من هذا النوع قد يتعرّض للطعن. وكأنه لا يعرف ان التعميم 155 الذي انتهت مفاعيله في اواخر العام 2023، استمر لفترة طويلة، وان محاولات الطعن السابقة سقطت، لأن الجميع ادركوا ان عدم تحديد سعر السحب ليس في مصلحة احد. أما لماذا لا يريد منصوري ان يحدّد سعر دولار المصارف، فذلك يعود الى الاسباب نفسها التي حالت دون قبول النواب بتولّي المهمة: كل طرف يريد تبييض صفحته امام الرأي العام، ولو على حساب مصلحة الناس والمصلحة العامة.
في عودة الى ما قاله ميقاتي، يمكن الاستنتاج ان عقلية التهرّب من تحمّل المسؤولية، من قبل كل من يُمسك بقرارٍ في الدولة، هي السائدة، في حين ان أزمة من عيار الأزمة التي يتخبّط فيها لبنان تحتاج الى رجالات من طينة مختلفة. ولعلنا ما زلنا نتذكّر ازمة اليونان، حين كان يقف رئيس الحكومة، او وزير المالية او اي شخص مسؤول في الدولة، ليقول : اتخذت هذا القرار الصعب من اجل الانقاذ، وانا اعرف انني عندما وقّعت عليه انما وقّعت على وثيقة إنهاء حياتي السياسية. فالشعوب تشبه بعضها في ردات الفعل، لكن من واجب من يجلس في سدة المسؤولية ان يتحمّل مسؤوليته وان يتخذ القرارات التي تخدم المصلحة العامة، حتى لو فهمها الناس بشكل خاطئ وعاقبوه عليها. ومع معرفتنا بطينة كل الرابضين على كراسي القرار، من أعلى الى أسفل، نستطيع ان نجزم براحة ضمير ان الانقاذ في لبنان بعيد المنال.