لا يختلف اثنان على ان أزمة موظفي القطاع العام منبثقة في الاساس من الانهيار المالي والاقتصادي الذي تعرّض له البلد منذ نهاية 2019، ولا يزال مستمرا من دون اي معالجة. واذا كان القطاع الخاص قد استعاد جزءا من حيويته ما قبل الانهيار، فان الامر نفسه لم ينسحب على القطاع العام الذي يعاني موظفوه من انهيار كبير في قدراتهم الشرائية، جراء انخفاض معدلات الرواتب الشهرية من حوالي الف دولار، الى 100 دولار اليوم. وهذا ما يفسّر الضيقة التي يواجهها هؤلاء.
ولكن معالجة هذا الملف لا يمكن ان تتم في معزل عن تداعيات الانهيار العام. وتماما كما ان الخروج من الأزمة الاساسية لا يمكن ان ينجح بخطط مجتزأة، كذلك فان أزمة رواتب القطاع العام لا يمكن ان تُعالج على القطعة، واجراءات ارتجالية، من خلال اعطاء حافز من هنا الى فئة معينة، وتوزيع قرض من هناك على فئة اخرى. وبالتالي، اذا كان من المسلّم به ان المعالجة النهائية ترتبط بخطة التعافي التي طال انتظارها ولم تر النور حتى اليوم، فان الاجراءات المؤقتة التي يمكن اللجوء اليها بانتظار الخطة الشاملة ينبغي ان تجري وفق توحيد المعايير، ومن خلال رؤية شاملة. ولا بد كذلك، من تحديد الفارق المسموح به بين الموظف الموجود في الخدمة الفعلية، وبين الموظف المتقاعد.
ولا يخفى على أهمية الاجرءات المؤقتة التي يمكن اتخاذها لاعادة ضخ الحياة في شرايين القطاع العام، وهو قطاع حيوي في دولة مركزية، اذ يتوقف عليه تسيير شؤون الناس وضمان استمرارية الاقتصاد، ذلك ان كل المعاملات والاشغال تمر في ادارة مركزية اسمها الدولة، وفي ظل اضراب موظفي القطاع العام، فهذا يعني ان الدولة صارت غائبة، ولا امكانية لتشغيل اي مرفق خاص او عام بشكل طبيعي في وضع مماثل. هذا الجمود يكلّف الاقتصاد خسائر فادحة، وسيؤدي مع الوقت الى انخفاض كبير في ايرادات الخزينة، بما يعني المزيد من الصعوبات المالية بالنسبة الى الدولة التي ستصبح عاجزة اكثر مما هي اليوم عن تلبية الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم لموظفيها. وهكذا نكون قد دخلنا في الحلقة المفرغة.
في هذا المناخ، يجنح البعض الى التطرّف في رفع سقف مطالبه، مثل المبدأ الذي رفعه فريق من موظفي القطاع العام، والذي ينصّ على تصحيح اجور الموظفين وفق مؤشر التضخم الصادر عن دائرة الاحصاء المركزي خلال السنوات الاربع الماضية. هذا المطلب كان يمكن ان يكون مطلب حق في اوضاع طبيعية، اذ كان معروفاً ان عملية تصحيح الاجور تستند الى هذا المعيار، والذي يهدف الى المحافظة على القدارات الشرائية للموظفين. لكن في ظل الانهيار القائم لا يمكن اللجوء الى هذا المعيار لتحديد مستويات رفع الاجور، وإلا نكون نكرّر خطيئة سلسلة الرتب والرواتب في العام 2017، والتي ساهمت في تسريع الانهيار وتعميقه، والذي أطاح بكل مكتسبات الموظفين جراء هذه السلسلة، ووضعهم في حالة يرثى لها، لا تزال مستمرة حتى اليوم.
بالاضافة الى مبدأ تصحيح الاجور لكي نعيد تحريك القطاع العام، لا بد من تسريع الشق الاصلاحي المتعلق باعادة هيكلة القطاع العام، قبل الوصول الى مرحلة تطبيع مستويات الرواتب واعادتها كما كانت عليه قبل الأزمة. اذ من المعروف ان القطاع العام كان متضخماً جداً قبل الانهيار، وهذا التضخم يعتبر من الاسباب الاساسية في الوصول الى الانهيار. وقد وصل حجم رواتب القطاع العام قبل الانهيار، الى حوالي 5.6 مليار دولار، بما يعني اكثر من ثلث موازنة الدولة، واكثر من نصف ايراداتها كانت مخصصة لقطاع عام غير منتج، وفيه قدر كبير من الفساد. وبالتالي، لا بد من اعادة هيكلة هذا القطاع قبل التصحيح النهائي للمداخيل. وينبغي ان تأخذ اعادة الهيكلة بالاعتبار انه لا يجوز ان يتجاوز حجم رواتب موظفي الدولة نسبة الـ20% من حجم الموازنة، ونسبة 30% من حجم ايرادات الخزينة. خصوصا ان الدولة في المرحلة المقبلة، وفي حال باشرت عملية تنفيذ خطة للانقاذ، ستكون محتاجة الى الحفاظ على اكبر قدر ممكن من الايرادات لتخصيصها للاستثمارات المجدية التي يمكن ان تساعد في نمو الاقتصاد، وبالتالي في تحسين الايرادات، لكي تتمكّن الدولة من الايفاء بالتزاماتها، ومن ضمنها تسديد ديونها بعد اعادة هيكلتها هي الاخرى.