استحوذت الزيادات التي أقرّتها الحكومة على رواتب موظفي القطاع العام على الاهتمام انطلاقاً من مجموعة اعتبارات يمكن ان تكون لها انعكاسات مباشرة على اوضاع الاقتصاد بشكل عام، وبالتالي على حياة اللبنانيين.
ومن خلال الارقام المتوفرة، ومع التحفّظ على احتمال ان تكون تلك الارقام غير دقيقة، ينبغي ان نلاحظ ان حجم الانفاق على رواتب موظفي القطاع العام قفز الى ما يقارب الـ1.47 مليار دولار سنويا، بما يعني انه بات يشكّل حوالي 50% من حجم موازنة العام 2024، كما أُقرّت ونشرت في الجريدة الرسمية. هذه النسبة قد ترتفع اكثر واقعياً، اذا ما تبيّن، وهذا الامر مرجّح، ان الايرادات المقدّرة في الموازنة مبالغٌ فيها، وهي تهدف الى تقديم موازنة من دون عجز، نظرياً لقطع الطريق على الاسئلة التي كانت تُطرح في شأن المصدر الذي سيتم استخدامه لسد هذا العجز.
في كل الاحوال، واذا سلّمنا جدلاً بأن أرقام الموازنة، كما هي مقدّرة، دقيقة، لا تزال المشكلة كبيرة، ذلك ان المعيار العالمي المُعتمد لقياس الاوضاع المالية في اية دولة، يقضي بألا يزيد الانفاق على الرواتب اكثر من نسبة 25 الى 27%. وهذه النسبة تلتزم بها كل الدول التي تحرص على استقرار الانتظام المالي، وسلامة اقتصادها الوطني. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تبلغ نسبة الانفاق على الرواتب في بريطانيا حوالي 22% من حجم موازنتها العامة. وبالتالي، تشكّل نسبة الـ50% التي وصل اليها لبنان بوادر أزمة اضافية من شأنها تعميق المشكلة، خصوصاً ان صندوق النقد الدولي سيركّز على هذه النسبة ويدعو الى خفضها قبل اي اتفاق محتمل معه لتمويل خطة الانقاذ.
والمفارقة هنا، ان رفع نسبة الانفاق على الرواتب وملحقاتها الى 50% من حجم الموازنة، لن يعيد العمل في القطاع العام الى طبيعته، بل سيؤدّي الى تأمين نصف ايام العمل تقريباً، أي بمعدل 14 يوماً في الشهر!
وفي هذا السياق، لا بد من التركيز على اشكالية اخرى يعانيها القطاع العام، ترتبط بعدم وجود ارقام دقيقة عن عدد الموظفين الذي سيستفيدون من زيادات الاجور. اذ قد تكون الدولة اللبنانية من الدول القليلة جدا في العالم التي لا تمتلك رقما دقيقا عن عدد المستفيدين من زيادات الاجور. هذا الغموض سببه التداخل الفوضوي بين الموظفين الثابتين في الملاك، والمتعاقدين والمياومين والعاملين في المؤسسات العامة، والمستشارين والعاملين بالقطعة، وصولا الى موظفي البلديات المرتبطين ولو بشكل غير مباشر بالقطاع العام.
بالاضافة الى هذه الاشكالية، ينبغي تسليط الضوء على غياب الاصلاحات التي تحول دون زيادة واردات الدولة بطريقة كافية لدفع تصحيح الاجور. اذ ان التقديرات تشير الى ان حجم الاقتصاد غير الشرعي تمدّد في السنوات الأخيرة، وبات حجمه اكبر من حجم الاقتصاد الشرعي. وهذا يعني بالمفهوم الاقتصادي ان ايرادات الدولة لاعادة توزيعها على المجتمع من خلال الانفاق الحكومي يدفعها نصف المجتمع، ويستفيد منها كل المجتمع. وهنا تكمن نقطة الضعف الاساسية. وفي المعطيات المتوفرة، ان حجم الاقتصاد غير الشرعي لا يزال ينمو اكثر فأكثر بسبب زيادة الضرائب، وانعدام القدرة التنافسية لدى المؤسسات التي تدفع الرسوم والضرائب، وتنافس مؤسسات لا تدفع المتوجبات للدولة.
تبقى الاشارة الى ان لبنان دولة مركزية، وكل المعاملات الرسمية تمر عبر الادارة المركزية، بما يعني عمليا ان هناك حاجة حيوية للحفاظ على عمل القطاع العام لضمان مصالح الناس اليومية، وتسهيل عمل المؤسسات والدورة الاقتصادية.
امام هذه المعضلة الناتجة اصلاً عن تقاعس الدولة في ارساء خطة للتعافي بعد الانهيار الذي وقع في اواخر العام 2019، تجد السلطة نفسها امام خيارات احلاها صعب. اذا لم ترفع رواتب موظفي القطاع العام تجازف بشل هذا القطاع، بما يعني المزيد من الضغوطات السلبية على الدورة الاقتصادية، وعرقلة عمل القطاع الخاص الذي تعتمد عليه الدولة في ضمان الحد الأدنى من الاستقرار الاقتصادي. واذا رفعت رواتب الموظفين في القطاع العام الى مستويات مقبولة لضمان عيش كريم، وضمان استمرارية العمل في المرفق العام، تجازف بضرب الانتظام المالي في المالية العامة للدولة، وستواجه معوقات اضافية عندما تعود الى مسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي الذي سيطلب معالجة الخلل الكامن في نمو نسبة الانفاق على الرواتب الى مستويات غير مقبولة.
في النتيجة، لا تتحرّك السلطة سوى تحت الضغط، وهذا ما حصل في موضوع الاجور، ولكن الخوف ان يؤدي هذا الضغط اذا استمر الى خطوات متهورة تقود الى عودة الاضطرابات الى سوق الصرف، والى انهيارات كبيرة في سعر صرف الليرة، سيدفع ثمنها كل اللبنانيين.