وسط النفق المظلم الذي وجد لبنان نفسه فيه منذ أشهر، وبعد التخبّط بأزمات مختلفة زعزعت أساساته على مختلف الأصعدة، يشقّ الطبّ طريقه بهدوء ويبثّ أملاً منشوداً هو أشبه بخشبة خلاص وسط السوداويّة القائمة.
منذ عام نجح المركز الطبّي في الجامعة الأميركية في بيروت في الحصول على امتياز استخدام اختبار طبّي نوعيّ من شأنه أن يحدّد نمط الخلل الجينيّ لتحديد العلاج الموّجه في حال توفّره. يعتبر هذا الفحص الأول من نوعه في لبنان والمنطقة، فما أهميّته؟ وكيف يساعد في زيادة فرص الشفاء وتوفير الوقت لكسب المعركة؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ الدراسات الأوّلية للأمراض السرطانية تسعى إلى البحث عن الاختلالات الجينية أي الخطأ في تكوين التسلسل الجينيّ الموجود في الخلية السرطانية. يوضح رئيس قسم الباتولوجيا الجزيئية في المركز الطبّي في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور رامي محفوظ أنّه “أظهرت الاختلافات في التسلسل الجينيّ أنّها تؤدّي إلى تفاعل هذه الخلايا السرطانية أو تكاثرها أو انتقالها من مكان إلى آخر في الجسم. ونعرف جيداً أنّ هذه الاختلالات الجينية ينتج عنها بروتينات غير طبيعية أو أنزيمات تعمل بطريقة غير متجانسة في الخلايا السرطانية”.
لماذا يعتبر العلاج الموّجه مهمّاً جدّاً؟ ينطلق محفوظ من هذا السؤال ليغوص أكثر في عالم العلاجات السرطانية التي تُعنى بالاختلالات الجينية، برأيه أنّ “العلاجات السرطانية التقليدية ومنها العلاج الكيميائي تقتل الخلية السرطانية إلى جانب تدميرها الخلايا السليمة فتُسبّب آثاراً جانبية ومضاعفات أخرى. لكن من خلال العلاج الموّجه المستخدم يمكن قتل الخلية السرطانية من دون تدمير الخلايا الأخرى أو التأثير عليها. وبالتالي بمجرد تحديد هذه الصبغة الجينية أو الاختلال الجينيّ للسرطان من شأنه أن يضع المريض في مسار متطوّر من العلاج يعطي نتائج متفائلة وجيّدة في الاستجابة لهذه الأنواع الجديدة من العلاجات الموجّهة”.
انتقلنا اليوم من مرحلة التقييم أو دراسة جين واحد على سبيل المثال إلى مرحلة دراسة التسلسل الجينيّ لدى عدد أكبر من الجينات. وبعد عامين من العمل على هذا الفحص، نجح المركز الطبّي في الجامعة الأميركيّة في بيروت في الحصول على امتياز من شركة عالمية أميركية لحصرية إجراء هذا الفحص الذي يُسمّى CGP ( Comprehensive Genomic profiling)، أي التسلسل الجينيّ المتكامل في لبنان والمنطقة. علماً أنّ هذا الفحص موجود حصريّاً في أميركا.
دراسة أكثر من 300 جين
وفي التفصيل، يدرس هذا الفحص أكثر من 300 جين يعطي المريض فرصة معرفة التصوّر العام للسرطان الذي يعاني منه، سواء بالتشخيص أو بمسار العلاج والاستجابة ومقاومة الدواء. ما أهميّة هذه النقلة؟ وفق محفوظ نكتسب وقتأً أسرع في مسألة تحديد نوع الاختلال الجينيّ وعدم استنزاف الخزعة أو العيّنة النسيجية لدراسة الخلل الجينيّ، كما نحدّد الهدف الذي يمكن البدء فيه لمحاربة الخلية السرطانية وعدم الانتظار طويلاً حتّى يباشر المريض علاجه. وقد أظهرت الدراسات أنّ الطبّ الدقيق والعلاج الموّجه هما آفاق المستقبل الجديد في علاج السرطان. كذلك ومثالاً، أعطت إدارة الدواء والغذاء الأميركية الموافقة في العام الماضي على أكثر من 150 دواءً للعلاج الموجّه في مختلف أنواع السرطان.
نعرف جيداً أنّ مئات الطفرات الجينية مسؤولة عن الإصابة بمختلف أنواع السرطان، ونعرف أيضاً أنّ تحديد الطفرة في جين أو أكثر يساعد بشكل كبير في تحديد العلاج الأفضل والحصول على نتائج مبشّرة وواعدة. إذاً يكتسب المريض فرصة أعلى في الشفاء ونوعية حياة أفضل ووقتاً أسرع في مباشرة العلاج من دون انتظار.
كيف يُجرى هذا الفحص؟
يتحدّث محفوظ أنّه في الماضي كنا نرسل الخزعة إلى الولايات المتحدة حيث تستغرق بين 6 و8 أسابيع للحصول على نتيجة فحص CGP. أما اليوم، وبعد أن أصبح الفحص متوفراً في لبنان وتحديداً في المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت، تستغرق النتيجة بين 5 و10 أيام كحدّ أقصى.
لماذا التركيز على أهمية اختبار CGP؟ لا يخفي محفوظ أنّ هذا الفحص يقدّم بصمة جينية شاملة للورم والتي من شأنها أن تكشف بدقّة عالية بمساعدة تقنية الجيل التالي من التسلسل (Next generation Sequencing) عن كلّ الطفرات التي تحدث في الجينات المعروفة حالياً والمرتبطة بالسرطان، والتي تكون مسؤولة عن الإصابة بالأورام.
وفي هذا الإطار، يتمّ أخذ عيّنة من النسيج سواء من الخلية أو من الورم بعد استئصاله، وإلى جانب هذا الفحص الأساسيّ الذي يُشكّل علامة فارقة في عالم السرطان، يعمل المركز الطبّي في الجامعة الأميركية في بيروت إلى إجراء اختبار موازٍ يُسمّى Liquid biopsy أي الخزعة السائلة، وهو عملية اختبار تعتمد على عيّنة من الدم.
ويشرح محفوظ قائلاً أنّ الخلية السرطانية التي تعتبر كأيّ خلية أخرى تموت في حدّ ذاتها بعد عمر معين، وبعد موت هذه الخلية السرطانية تقذف الحمض النووي أو بروتينات في الدم مثلاً، ونحاول من خلال الدم الخارجيّ التقاط هذه المؤشرات التي تساعد على معرفة أكثر حول نوع السرطان والخلل الجينيّ الحاصل ومراقبة وتشخيص الدم الخارجي والتأكّد من مقاومة السرطان للعلاج.
وعليه، يُنصح اليوم بأخذ خزعة للأنسجة مع اختبار الخزعة السائلة لمعرفة التجانس والاختلافات والانطلاق من النتيجة لتحديد مسار العلاج الأنسب.
وبعد أن كان الفحص موجوداً في المركز الطبّي في الجامعة الأميركية لتطويره وتقييمه بالتعاون والتنسيق مع شركة الأدوية الأميركية العالمية، أصبح الاختبار متوفراً للمرضى منذ الصيف الماضي، بعد إثبات فعاليته وجودته. الفحص مكلف لكنّه أقلّ سعراً في لبنان مقارنة بالخارج حيث كان الفحص يكلّف أكثر من 3000 دولار.
ويتمنّى محفوظ من وزارة الصحة وشركات التأمين العمل ليصبح الفحص الدقيق معترفاً به ولا تكون كلفته على عاتق المريض، لأنّه يساعد في التخفيف من عبء العلاجات التجريبية التي يمكن أن يخضع لها المريض لمواجهة السرطان. هذه الفاتورة الاستشفائية التي قد يتكبّدها المريض خلال مرحلة علاجه يمكن تقليلها من خلال تحديد المسار وفق النتيجة الصادرة عن نوع الخلل والعلاج الموجّه الأنسب له.
هل يمكن استخدام هذه الاختبارات للكشف عن السرطان في المستقبل؟ يجزم محفوظ أنّ هذه الفحوص تُعنى فقط بالورم وبالتالي ليس بالكشف المبكرعن السرطان. كما لم تثبت الفحوص الخاصّة بالكشف المبكر عن السرطان فعاليتها بنسبة عالية وموثوقة، ويجب أن تكون تحت إشراف طبّي لتوجيه المريض حول ضرورة إجراء هذا الفحص من عدمه.
وقد ساعد فحص التسلسل الجينيّ الجديد حوالى 500 مريض في لبنان خضعوا له لتحديد المسار العلاجي الأنسب لهم. ومن المهم أن نعرف أنّ النتيجة السلبية للفحص تعني عدم المضيّ في خيار العلاج الموجّه وإنّما اعتماد العلاجات التقليدية لمعالجة السرطان، وقد وجّه العلاج المناسب للمريض سواء أكانت نتيجة فحص CGP سلبية أم إيجايبة. أمّا التسلسل الجينيّ المتكامل CGP فشمل حوالى 100 مريض محلياً.
التجارب السريرية
يتيح اختبار CGP من خلال إصدار التقرير مع النتيجة النهائية إعطاء توصية باقتراح مركز طبي يقوم بدراسة دواء جديد غير معتمد بعد دولياً، ولكنّه يتمّ دراسة فعاليته من خلال تجربة سريرية تضمّ عدداً معيّناً من المرضى ومدى استجابتهم للعلاج التجريبيّ.
بطريقة أخرى، وفي حال لم يتوفر دواء لهذه الطفرة الجينية يمكن للمريض أن يخضع للتجارب السريرية على أدوية ما زالت قيد الدراسة، وإعطاء فرصه له في الاستفادة من الدواء التجريبيّ، بالإضافة إلى العلاج التقليدي. ونعرف جيداً أنّ هناك أدوية تجريبية عديدة أصبحت اليوم معترف بها كعلاج فعّال في معالجة السرطان.
ظاهرة مقلقة في لبنان
اللافت اليوم تسجيل زيادة في سرطانات المثانة والرئة في لبنان نتيجة التدخين وانتشار النرجيلة، بالإضافة إلى زيادة التلوّث ونمط الحياة غير الصحّي التي تزيد من عوامل الخطر في الإصابة. وما نلاحظه اليوم هو تسجيل إصابات في السرطان لفئات عمرية صغيرة تتراوح بين 20 و30 عاماً بعد أن كانت في الماضي تُصيب الفئة العمرية التي تتراوح بين 50 و60.