منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، تعرض الاقتصاد السوري إلى واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية في العالم الحديث. دُمرت البنى التحتية، وأُضعفت القطاعات الإنتاجية بشكل كبير، مما أدى إلى خسائر اقتصادية هائلة انعكست على مستوى معيشة المواطنين واستقرار الدولة. ومع تجدد الصراعات بين الدولة السورية والفصائل المعارضة، يبدو أن المشهد الاقتصادي يزداد تعقيدًا، وسط توقعات بازدياد الخسائر بصورة دراماتيكية.
الخسائر الاقتصادية منذ 2011
وفقاً لتقارير دولية ومحلية، بلغت الخسائر الاقتصادية الإجمالية في سوريا حتى عام 2023 أكثر من 600 مليار دولار، بمعنى آخر بلغت خسائر كل مواطن سوري من هذا الصراع 26 ألف دولار في 13 عاما.
ويشمل هذا الرقم التدمير الكلي أو الجزئي للبنية التحتية، مثل الطرق والجسور والمدارس والمستشفيات، إلى جانب توقف العديد من الصناعات الأساسية، خاصة في مدينة حلب التي كانت تُعد مركزًا صناعيًا مهمًا في البلاد.
القطاعات المتضررة
تعرضت الطرق السريعة وشبكات الكهرباء والمياه لتدمير واسع النطاق، ما أدى إلى تكاليف إعادة إعمار ضخمة. وبلغت تكاليف إعادة بناء البنية التحتية وحدها حوالي 120 مليار دولار وفق تقديرات البنك الدولي.
كانت سوريا تعتمد بشكل كبير على الزراعة لتوفير الغذاء والصادرات، لكن الأراضي الزراعية تضررت بسبب الصراعات، وزاد شُح المياه والأسمدة. تراجع الإنتاج الزراعي بنسبة 60% مقارنة بمستوياته قبل الحرب، وسجل خسائر بحدود الـ 16 مليار دولار وكان يوفر فرص عمل لنحو 5 ملايين سوري.
كما تضررت مصانع كبرى أو توقفت تماماً، خاصة في مدينتي حلب وحمص وبلغت خسائر القطاع الصناعي وحده حوالي 80 مليار دولار. وتراجعت الصادرات من 9 مليارات دولار إلى أقل من مليار دولار في 2023. وسجل قطاع النفط والغاز خسائر بقيمة 115 مليار دولار، وتراجع الانتاج من 400 ألف برميل إلى 15 ألف برميل يوميا
تقلص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 70% منذ 2011، مما أدى إلى تدهور الليرة السورية وزيادة معدلات الفقر.فيما 6 مليون سوري يعانون من فقر حاد و12 مليون سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
تجدد الصراعات: تهديد جديد للاقتصاد
مع عودة الصراعات المسلحة في مناطق متعددة بين الدولة السورية والفصائل المعارضة، تُهدد هذه التطورات بتفاقم الأوضاع الاقتصادية بشكل كارثي. تشمل هذه الصراعات استهداف مناطق زراعية وصناعية، ما يزيد من تعطل الإنتاج وتدمير ما أُعيد بناؤه جزئيًا خلال السنوات الأخيرة.
في هذا الإطار يقول الخبير الاقتصادي، د. بلال علامة، في حديثه لـ”النهار” إنّه “لا شك أن الأحداث الجارية في سوريا الآن ستعيد خلط الأوراق فيما يتعلق بالتوازن الاقتصادي الذي حاولت البلاد تحقيقه بعد الحرب السابقة.
كانت مدينة حلب وأريافها تمثل دعامة أساسية لهذا التوازن الاقتصادي، حيث تعتبر حلب بمثابة “خزان الصناعة” في سوريا. بدأت عجلة الصناعة والزراعة في المدينة وأريافها تعود تدريجيًا إلى العمل، خاصة في ظل الأراضي الزراعية المنتجة التي تشكل ركيزة مهمة للاقتصاد السوري. كل هذه الجهود كانت تهدف إلى إعادة تنشيط الاقتصاد السوري الذي لا يزال يعاني من وطأة العقوبات الاقتصادية، بما في ذلك عقوبات “قانون قيصر”، والقيود المفروضة على الدولة”.
وأضاف علامة “كانت حلب تلعب دورًا حيويًا من خلال التواصل مع المناطق التي لا تزال تحت سيطرة الميليشيات. هذا التواصل ساهم في إدخال العملة الأجنبية، خاصة من الجانب التركي، حيث كانت بعض الفصائل التي ترتبط بتركيا تتداول بالعملة الأجنبية. ونظرًا للعقوبات الاقتصادية، تُعدّ هذه العملات الأجنبية ضرورة ملحة لتحريك عجلة الاقتصاد السوري”.
إضافةً إلى ذلك، فإن السوريين الذين غادروا المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة، كانوا عند عودتهم مضطرين لدفع مبلغ مئة دولار أو صرفها عبر المصرف المركزي بالسعر الرسمي، يقول علامة، هذه الإجراءات ساهمت بشكل غير مباشر في دعم الاقتصاد السوري وتعويض جزء من الخسائر”.
وتابع “ولكن مع التطورات الراهنة، فإن سوريا مهددة بفقدان أجزاء كبيرة من الإنتاج الزراعي والصناعي الذي بدأ للتو بالتعافي. كما ستتأثر مصادر العملة الأجنبية، مما سيزيد من الضغوط الاقتصادية على الدولة السورية في ظل استمرار العقوبات، ويُفاقم من صعوبة الوضع الاقتصادي العام”.
يذكر أنّ مدينة حلب الشهباء، كانت العاصمة الاقتصادية لسوريا، وقبلة التجار والمسافرين عبر العصور، وقبل الحرب، شكلت ربع الاقتصاد السوري، وثلث القطاع الصناعي، ونحو 13% من القطاع الزراعي. وكانت تضم حلب أكثر من 4 آلاف منشأة صناعية وحرفي، وتنتج 60% من حاجات سوريا من الأدوية، و35% من النسيج، وكان يعمل في حلب 23% من القوة العاملة في سوريا. وبسبب الحرب تجاوزت خسائر حلب 65 مليار دولار حتى العام 2022 وتوقف أكثر من 75% من معاملها الصناعية عن العمل وتم نقل الجزء الأكبر منها إلى تركيا.
التوقعات المستقبلية
تشير التقديرات إلى أن تجدد الصراعات قد يضيف خسائر جديدة تصل إلى 10-15 مليار دولار خلال الأشهر القادمة فقط، نظراً للدمار المحتمل للبنى التحتية والقطاعات المنتجة.
ويقول الخبير الاقتصادي، إنه “من المبكر جدًا تحديد حجم الخسائر بدقة من الناحية الرقمية، خاصة أن العمليات العسكرية ما زالت مستمرة في يومها الخامس. إلى جانب خسارة المناطق المتبادلة بين الأطراف المتنازعة، يجب أخذ الدمار الناتج عن هذه العمليات بعين الاعتبار، سواء على مستوى البنية العمرانية أو البنية التحتية، والتي ستضاف إلى الخسائر السابقة بشكل تراكمي”.
ومع تصاعد حدة المعارك وازدياد الاعتماد على الغارات الجوية وغيرها من الوسائل العسكرية، فإن ذلك سيؤدي إلى تعميق الأضرار الاقتصادية. فبحسب علامة، إن “الخسائر بدأت تتصاعد بشكل كبير، وقد تصل إلى ما لا يقل عن مليار دولار في الأسابيع الأولى فقط، نظرًا لاتساع الرقعة الجغرافية التي تأثرت بالعمليات العسكرية والتي تشمل مناطق كبيرة جدًا”.
ومع استمرار العقوبات الدولية، مثل “قانون قيصر”، يحد من إمكانية الحصول على موارد مالية لإعادة الإعمار ويُصعّب وصول المساعدات الإنسانية. كما أن أي تصعيد عسكري جديد سيبعد المستثمرين الأجانب والمحليين، ما سيُعمق الأزمة المالية. ومع استمرار النزاعات، من المتوقع أن ترتفع معدلات البطالة لتتجاوز 60%، مما يفاقم الأعباء الاجتماعية.