يستطيع المتابع لمسار الأحداث في غزة منذ العملية النوعية لحماس في السابع من تشرين الأول الماضي، أن يتأكد أن الجيش الإسرائيلي يريد أن «يقتل ويدمّر كل شيء» ليس المتحرك فحسب وإنما الثابت أيضاً. تنتقم إسرائيل من عملية حماس بقتل عسكرها وخطف مستوطنيها، باغتيال الأطفال والنساء والشيوخ والرجال.. حتى الحيوانات. وهي بالطبع، تدمّر الأشياء، من أبنية ومعالم دينية وتاريخية وطرق ومستديرات. حتى أنّ بعض المتطرفين دعوا إلى «إزالة غزة عن الخارطة». من قال ذلك ليس مؤثراً على تيك توك، وإنما هو وزير في الحكومة الإسرائيلية. فقد أيّد وزير «التراث» (أي تراث تُرى في إسرائيل غير الاحتلال؟!) عميحاي إلياهو فكرة إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة لتحقيق هدف القضاء على حركة حماس. هل هناك أقسى وأوقح وأكثر إجراماً من هذا الكلام بحق «السكان الأصليين» لغزة وكل فلسطين؟! هو بالعكس يدعو إلى «استعادة» أراضي قطاع غزة وإعادة بناء المستوطنات هناك. وعندما سئل عن مصير السكان الفلسطينيين قال: «يمكنهم الذهاب إلى إيرلندا أو الصحارى، ويجب على الوحوش في غزة أن تجد الحل بنفسها».
عبر مواقع إخبارية عربية وأجنبية، نشاهد عشرات الأمثلة على مدى الحقد الإسرائيلي على الفلسطينيين.. واللبنانيين. رأيتُ أحد الفيديوهات على موقع «أنا العربي» على إنستاغرام، لضابط إسرائيلي يتحدث إلى مجموعة من الإسرائيليين. أخذ الميكروفون وقال ما حرفيته: «غزة ولبنان لنا. كل البلاد لنا.. سوف ندمّر حماس.. سوف ندمّر الجميع».
على مواقع التواصل الاجتماعي أيضاً، فيديوهات كثيرة «لمدنيين» إسرائيليين يدعون إلى إبادة «العرب». لا فرق عندهم بين فلسطيني أو لبناني أو أي جنسية عربية أخرى.. كلهم «عرب». كل العرب يعرفون ذلك، لكنّ كل دولة عربية تعمل وفق مصالحها وحساباتها.
وهكذا، نرى أن الإسرائيليين، قيادة وعسكراً وشعباً، يريدون تصفية الفلسطينيين وكل من يذكّر بوجود فلسطيني «يهدد» وجود إسرائيل وبقاءها واحتلالها أراضيَ فلسطينية سواء في غزة أو في الضفة الغربية.
الجيش الإسرائيلي الذي «لا يُقهر» (هكذا وصف قبل عملية ٧ تشرين الأول) يستهدف المستشفيات والمساجد والكنائس، أفلا يستهدف الصحافيين الذين ينقلون هذا العدوان وهذه الهمجية؟
بحسب المكتب الإعلامي في حكومة غزة فإنّ ٤٦ صحافياً استشهدوا في القطاع غزة بسبب الغارات الإسرائيلية المتواصلة منذ السابع من تشرين الأول الماضي.
الأخطر من هذا أن إسرائيل قامت بقصف عائلات صحافيين. والكل يذكر مقتل عائلة مدير مكتب الجزيرة في غزة وائل الدحدوح في ٢٥ تشرين الأول الماضي. فيما كان هو ينقل الحدث على الهواء مباشرة! وقد استشهد في القصف زوجته وابنه وابنته وحفيده، في قصف إسرائيلي استهدف منزلا نزحوا إليه في مخيم النصيرات وسط القطاع.
وقال الدحدوح وهو ينعى عائلته باكياً: «القصف الإسرائيلي استهدف عائلتي في منطقة بعيدة عن شمال غزة الذي طلب جيش الاحتلال إخلاءه. ينتقمون منا بالأولاد. دموعنا دموع إنسانية وليست دموع جبن وانهيار، فليخسأ جيش الاحتلال».
وفي حادثة مماثلة، قتلت قوات الاحتلال مراسل تلفزيون فلسطين محمد أبو حطب، و١١ من أفراد عائلته، جراء قصف الطيران الإسرائيلي منزله في خان يونس. وفي رد فعل عاطفي وطبيعي إثر جريمة كهذه، إنهار زميله الصحافي سلمان البشير باكياً، وخلع سترته الواقية وخوذته أثناء البث التلفزيوني، قائلاً: «لا داعي لها، إنها لا تحمينا. نحن هنا ضحايا على الهواء مباشرة. نحن ننتظر الدور واحدا تلو الآخر. بلا أي ثمن».
كيف يستطيع القاتل إخفاء جرائمه؟ كيف يمكن له إيهام الرأي العام بشرعية قصفه واعتداءاته؟ إنه «قصفُ» الإعلام بالصوت والصورة. تخويف الإعلاميين. قتل أهاليهم في غزة. وقف الكهرباء والإنترنت عن الناس جميعاً وعن الإعلام.
مثل هذا الأمر يحصل في جنوب لبنان الذي يشهد أيضاً اشتباكات بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله. إسرائيل عمدت منذ بدء الاشتباكات إلى ترهيب الصحافيين في محاولة لإسكاتهم أو تهجيرهم ببساطة من الجنوب كي لا ينقلوا الأخبار.
من هؤلاء، المصور الصحافي العامل في وكالة رويترز عصام عبد الله الذي قتل خلال قصف الاحتلال الإسرائيلي بلدة علما الشعب جنوب لبنان في ١٣ تشرين الأول الماضي. القصف أدى إلى إصابة الصحافيَيْن ثائر السوداني وماهر نزيه، من «رويترز» بجروح. كما أصيبت المصورة في وكالة «فرانس برس» كريستينا عاصي ومصور الفيديو في الوكالة نفسها ديلان كولنز. وأصيب الصحافيان من فريق قناة «الجزيرة» كارمن جوخدار وإيلي براخيا. متحدث باسم الجيش الإسرائيلي أعلن «فتح تحقيق» في الواقعة ووصف الأمر «بالمأساوي» من غير الاعتراف بجريمته.
مأساة تهديد الصحافيين في لبنان وغزة مستمرة. يوم السبت، قبل يومين، أعلنت الزميلة في قناة «العربية» ناهد يوسف أنه بعد مغادرتها وفريق العمل بلدة ميس الجبل بعشر دقائق تم قصف المنزل الذي كانوا يصورون فيه. وختمت «الله وحده هو الحامي».
الاعتداءات الإسرائيلية لا تقيم وزناً للمواثيق الدولية التي تحمي الصحافيين والمدنيين والمدارس وأماكن العبادة والمستشفيات وسيارات الإسعاف.
آخر الجرائم بحق الصحافيين والمدنيين مساء أمس الأحد، استهداف الجيش الإسرائيلي سيارة كان يقودها الصحافي سمير أيوب وبرفقته سيارة أخرى تقل أقارب له، على طريق عيناتا اللبنانية. الحادث الإجرامي أدى إلى استشهاد كل من سميرة عبد الحسين أيوب (شقيقة الصحافي سمير أيوب) وأحفادها الشقيقات: ريماس محمود حجازي (١٤ عاماً) تالين محمود حجازي (١٢ عاماً) وليان محمود حجازي (عشرة أعوام) ووالدتهم هدى أيوب التي أصيبت بجروح مع شقيقها الصحافي سمير أيوب.
إسرائيل مستمرة في عدوانها معتمدة على الدعم الأميركي والأوروبي. والفلسطينيون مستمرون في التشبث بأرضهم وقضيتهم رغم كل هذا العدوان الوحشي، وكذلك اللبنانيون الذين ذاقوا الأمرّين من إسرائيل منذ نشوء الكيان في العام ١٩٤٨. وأما الصحافيون الملتزمون بإنسانيتهم ومهنيّتهم، فسيبقون ينقلون الحقيقة لأن الساكت عن جرائم إسرائيل.. «شيطان أخرس».